الوقف على الذرية

 


أ.د.عبدالمؤمن شجاع الدين

الأستاذ بكلية الشريعة والقانون

جامعة صنعاء

الحكم محل تعليقنا هو الحكم الصادر بتاريخ 10/10/1999م عن الدائرة الشخصية بالمحكمة العليا في الطعن الشخصي رقم 372 لسنة 1420ه وخلاصة هذا الحكم  أنه ( لما كان الطعن بالنقض قد تضمن أن الحكم الإبتدائي ومن بعده الحكم الإستئنافي قد خالفا إرادة الواقف وشرع الله الذي يحترم إرادة الواقف في التقرب إلى الله بقيام ذريته بتلاوة القرآن من بعده وإهداء ثواب القراءة إلى روحه ، وكان رد المطعون ضدهم بأن الطاعن يحاول أن يجعل الوقف هو جربة(...) بغير مستند ولا دليل، وأن الإستدلال بالمصلحة لا يجوز في الوقف ، وكان  رد المطعون ضدهم بأن الطاعن يحاول أن ينفي  الوقف عن جربة (...) بغير مستند ولا دليل مع أن والده معترف بأن جربة(..) وقف ذري للذكور والإناث على حد سواء ، وأن هذا كان هو المعمول به من قبل أسلاف الطاعن والمطعون ضدهم وأن الطاعن يريد مخالفة هذا الأمر ، وبعد التأمل من قبل الدائرة  والمداولة فيما قرره الحكم الإبتدائي من استحقاق المطعون ضدهم وهم المدعي(...) وبنات عمه (...) وعمتهن من جربة(....) المتنازع عليها ، في حين أيد الحكم الإستئنافي استحقاق المدعي(...) من جربة(...) وعدم تأييده فيما يتعلق بدعوى ومطالبة بنات البنت وسكوت الحكم الإستئنافي عن دعوى عمة البنات(...) التي هي أرفع درجة من بنات البنت، وبعد المداولة فقد ثبت للدائرة أن الوقف بحسب الوقفية وقف ذري مطلقاً أي وقف حبس للذكر و الأنثى على حد السواء فلم يخص الواقف الذكور دون الإناث وما كانت صفته من الوقف  هكذا فالذكور والإناث فيه سواء ، وحيث أن العمة هي الأعلى درجة من بنات أختها فالقاعدة انه  لا يدخل الأسفل مع الأعلى ، وحيث أنه لم يتبين للدائرة ن خلال أوراق القضية من هو الأعلى درجة من بقية الورثة الموقوف عليهم مع أهمية ذلك بإعتباره علة الحكم وأساسه ، ولهذا لزم الإرجاع إلى الإستئناف لمعرفة وتحديد الأعلى درجة إلى الواقف والحكم في ضوء ذلك ، وسيكون تعليقنا على هذا الحكم بحسب الأوجه الآتية:

 الوجه الأول: الموقف الشرعي من وقف القراءة والوقف الأهلي:

أشار الحكم محل تعليقنا إلى وقف القراءة ، وذلك يقتضي بيان الموقف الشرعي من وقف القراءة أو وقف الدرس حتى يكون المطالع الكريم على بينة من الأمر ، حيث اختلف الفقهاء بشأن وقف القراءة على ثلاثة أقوال:

القول الأول: لا يجوز الوقف على القراءة ولا يصل الثواب إلى الواقف، وحجتهم في ذلك عدم جواز النيابة في القربات والعبادات  عملاً بقوله تعالى : )) وأن ليس للإنسان إلا ما سعى)) فلا يجوز أن يسعى الساعي وأن يتحصل على الأجر غير الساعي أي الواقف، والقول الثاني: لا يجوز وقف القراءة للذرية ويستثنى من ذلك الإبن وأن سفل وحجتهم في ذلك أيضاً قوله تعالى : (( وأن ليس للإنسان إلا ما سعى))   ومعلوم أن الإبن  من سعي أبيه  وكذا قوله صلى الله عليه وسلم : (( ينقطع عمل ابن آدم بموته، إلا من ولد صالح يدعو له  أو صدقة جارية أو علم ينتفع به)) وقراءة القرآن من أهم وسائل الدعاء ومظاهره بإتفاق الفقهاء، إضافة إلى أن الوقف للقراءة يكون الباعث عليه هو حث الذرية على ملازمة قراءة القرآن لأنه واجب شرعي وفقاً لقوله تعالى: ((فاقرأو ما تيسر منه وأقيموا الصلاة)) فقراءة القرآن جاءت متقدمة في الآية الكريمة على الصلاة وفي ذلك دليل على أهميتها وفرضيتها، القول الثالث: يجوز الوقف للقراءة مطلقاً سواء من الذرية أو غيرهم لأن الدعاء قربة من أهم القربات بل هو العبادة فقد قال تعالى :  (( وقال ربكم ادعوني استجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين)) ومن أفضل الدعاء جوامع الدعاء الذي يتضمن الدعاء للنفس وللوالدين ولعامة المسلمين ولذلك يجوز وقف القراءة  سواء أكان الموقوف عليهم  من ذرية الواقف أو غيرهم، ويذهب غالبية فقهاء اليمن إلى ترجيح القول الثاني الذاهب إلى جواز وقف القراءة على الأولاد وقد رجح ذلك الشوكاني وابن الأمير.

أما بالنسبة للوقف على الذرية عند الفقهاء فهو جائز عند غالبيتهم إذا كان يتضمن مبرة كأن يوقف الواقف على الضعفاء والمرضى والمساكين والمعوقين وطلبة العلم من ذريته.

الوجه الثاني: الموقف القانوني من وقف القراءة على الذرية:

عند صدور قانون الوقف السابق رقم 78 لسنة 1976 نص صراحة على منع الوقف الذري أو الأهلي بما في ذلك وقف القراءة ، وفي الوقت ذاته صرح ذلك النص على أنه لا يترتب على ذلك إبطال الوقف الذري السابق على صدور ذلك القانون ( 1976) عملاً بمبدأ عدم رجعية النص القانوني ، وتبعاً لذلك فقد صار الوقف الأهلي والذري ممنوع منذ ذلك العام ، ونجد هذا التقرير القانوني في القانون النافذ حيث نصت المادة (33) من قانون الوقف النافذ على أن ( الوقف على النفس خاصة أو على وارث أو على الورثة أو على الذرية أو على الأولاد  أو على أولاد الأولاد باطل مالم يكن المذكورون داخلين في عموم جهة بر عينها الواقف في الحال فيعامل الواحد منهم كأحد أفرادها أو كان الموقوف عليه عاجزاً كالأعمى والأشل وليس له ما يكفيه ، وفي هذه الحالة إذا زال عجزه أو مات اعتبر الوقف منقطع الصرف ويأخذ حكمه) وبالنسبة للأوقاف الأهلية السابقة على صدور القانون النافذ عام (1992) فقد نصت المادة (46) على أنه ( الأوقاف الاهلية القديمة التي لا تتفق شروطها مع الشروط المنصوص عليها في هذا القانون إذا كانت قد  صدرت فيها أحكام شرعية بصحتها أو كان الورثة قد تراضوا عليها أو مضى عليها أربعون عاماً تبقى على ماهي عليه ولا تنقضي إلا بتراضي أهل المصرف أو أغلبهم بحسب الإستحقاق، وأوفرهم صلاحاً ويقدم من خلال الجهة المختصة للحاكم لتحقيقه والإذن بنقض الوقف إذا تحققت المصلحة) وهذا الحكم القانوني يسري على وقف القراءة الذي قرر القانون النافذ منعه أيضاً في المادة(36) التي نصت على أن ( الوقف في درس أو للقراءة للوارث لما تيسر غير صحيح) ومؤكد أن المنع لا يعمل به إلا من تاريخ صدور القانون النافذ (1992) أما ما قبل ذلك فيسري عليه ما ورد في المادة (46) السابق ذكرها، والعلة من منع الوقف الذري في القوانين الصادرة  عامي 1976و1992 هو أن الوقف يكون في هذه الحالة في حكم الوصية ، والوصية لا تجوز لوارث ، كما أن عبارة الواقف بعد وفاته ينبغي احترامها فهي معتبرة شرعاً ، أما العلة في عدم نقض الأوقاف الذرية القديمة فهو استقرار المراكز الشرعية والقانونية التي تعلقت بتلك الأوقاف والتي يتعذر أو يستحيل إعادة ترتيبها أو توفيق أوضاعها إذا تم نقضها لاسيما  بعد انقضاء فترة من الزمن إضافة إلى أنه سوف يترتب على النقض لتلك الأوقاف تبعات وآثار غاية في الخطورة يتعذر تداركها إن لم يستحيل ذلك .

الوجه الثالث: هل تدخل البنات وأولادهن ضمن الذرية في استحقاق الوقف الذري؟

من خلال مطالعة الحكم محل تعليقنا نجد أنه قد أدخل بنات الواقف فقط دون أولادهن ويرجع ذلك لأسباب عدة استند إليها الحكم منها أن الوقفية قد نصت صراحة على ان الموقوف عليهم هم ذرية الواقف ذكوراً وإناثاً حسبما ورد في الوقفية إضافة إلى  أن أولاد البنت  لا يدخلون في مفهوم الذرية لغة وشرعاً  لأن الأبناء هم الذين ينسبون إلى آبائهم قال تعالى : (( ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله)) وقال الشاعر:

 بنونا بنو أبنائنا    وبناتنا بنوهن ابناء الرجال الأباعد .

وعلى هذا الأساس فلا تدخل في الذرية إلا بنات الواقف فقط دون أولادهن ، ولذلك نجد الحكم محل تعليقنا يشير إلى أحقية بنات الواقف فقط، فقد كان إدخال بنات البنت في هذا الوقف من أهم أسباب نقض الحكم محل تعليقنا للحكمين الإبتدائي و الإستئنافي ، ولهذه الغاية أرشد الحكم محل تعليقنا محكمة الإحالة إلى وجوب تحري الدرجة الأعلى القريبة من الواقف.

الوجه الرابع: تقرير الحكم محل تعليقنا للوقف الذري وعدم إبطاله:

عند التأمل في الحكم محل تعليقنا نجد أنه لم يبطل الوقف على الذرية بما في ذلك وقف القراءة والدرس بإعتبار أن الوقفية قديمة سابقة لصدور قانون الوقف النافذ.

الوجه الخامس: وقف الجنس تصرف عائداته على الورثة ذكوراً وإناثاً:

يقرر الحكم محل تعليقنا بأن وقف الجنس وهو الوقف الذي يقرر الواقف في الوقفية أن الموقوف عليهم هم الذرية جميعاً ذكوراً وإناثاً، وهذا الوقف تستحق فيه بنات الواقف  من غلاله وعائداته فينبغي أن تصرف عائداته على الموقوف عليهم جميعاً إناثاً وذكوراً بحسب الفرائض الشرعية ، هذا ولكن لا تستحق ذلك إلا البنات فقط على النحو السابق بيانه في الوجه الرابع من هذا التعليق.

الوجه السادس: عدم جواز تقسيم الرقبة على الموقوف عليهم في الوقف الذري:

من المعلوم أن الوقف شرعاً هو حبس المال (الرقبة )وعدم جواز التصرف في الرقبة ولذلك نصت المادة (3) من قانون الوقف على أن ( الوقف هو حبس مال والتصدق بمنفعته أو ثمرته على سبيل القربة تأبيداً) وبما أن مالك الرقبة في الوقف هو الله تعالى فلا يجوز البيع للوقف، أما حق الموقوف عليهم فإنه يقتصر على غلال الوقف وعائداته ومنافعه ونظارته للقيام بأمره والحفاظ عليه، وعلى هذا الأساس فإن تقسيم الوقف الذري أو الأهلي على الورثة فيه تعدي على حق المالك وهو الله تبارك وتعالى، ولذلك يكون تقسيم الوقف الأهلي أو الذري الوسيلة الأولى لضياع الوقف، وعلى هذا الأساس ينبغي أن يتولى ناظر الوقف الأهلي القيام بأمر هذا الوقف والحفاظ عليه وتقسيم غلاله وعائداته على الموقوف عليهم والله أعلم.       

  

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

اسباب الطعن بالنقض في القانون اليمني

ماهي الحالة التي يجوز فيها الحكم بإعادة القضية الى المحكمة الابتدائية؟

إنكار المحرر العرفي الصادر عن الغير