إدراج المدين في القائمة السوداء قرار إداري

 

 


أ.د عبد المؤمن شجاع الدين

الاستاذ بكلية الشريعة والقانون بجامعة صنعاء

يتعثر بعض المدينين عن سداد الديون المستحقة للبنوك في المواعيد المحددة لأسباب عدة ليست محل بحثنا ووفقاً لقانون البنوك وقانون البنك المركزي يقوم البنك بتكليف البنوك والمصارف بموافاته بأسماء المدينين المتعثرين ، وبموجب ذلك يقوم البنك المركزي بإعداد قائمة سوداء تتضمن أسماء المدينين المتعثرين واعلانها ، ولا ريب انه يترتب على ذلك الحاق الضرر بالأشخاص الطبيعيين والاعتباريين المدرجة اسماؤهم في القائمة السوداء حيث يلجاء بعضهم الى المحاكم التجارية مختصمين المصارف والبنوك مطالبين الحكم لهم بالتعويض المناسب جراء الضرر الذي يلحق بهم ، وقد صدرت احكام عدة من المحكمة العليا قررت أن ( إدراج المدين المتعثر في القائمة السوداء قرار إداري وليس عملاً تجارياً ) وبناءً على ذلك فإن الإختصاص بنظر أي خلاف بشأن هذا القرار ينعقد للمحكمة الإدارية وليس التجارية ، ومن الأحكام الصادرة في هذه المسألة الحكم محل تعليقنا وهو الحكم الصادر عن الدائرة التجارية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 13/2/2011م في الطعن التجاري رقم 43594 لسنة 1432هـ.

وتتلخص وقائع القضية التي صدر فيها الحكم محل تعليقنا ان احدى شركات المقاولات تعاقدت مع الحكومة لإنشاء مبنى حكومي حيث شرعت الشركة بالبناء ونفذت جزءً منه بعد أن حصلت على ائتمان مصرفي من احد البنوك لتمويل المشروع ، وبعد فترة تعثر استكمال مشروع المبنى لخلافات فيما بين الشركة المقاولة والحكومة ، وطالت المدة فقام البنك بمطالبة الشركة المقاولة بسداد الديون المستحقة عليها بحسب العقد فلم تبادر الشركة المدينة بالسداد فتكررت مطالبات البنك للشركة فلم تفلح تلك المحاولات والمطالبات فقام البنك برفع دعوى تجارية مطالباً بسداد الشركة لمديونيتها وكذا قام البنك برفع اسماء المدينين المتعثرين في سداد مديونياتهم حيث تم رفع اسماؤهم الى البنك المركزي اليمني ومن ضمن هؤلاء الشركة المقاولة المشار اليها وبعد ذلك قامت الشركة المقاولة برفع دعوى امام المحكمة التجارية اختصمت فيها البنك الدائن مطالبةً بتعويضها عن الاضرار المادية والمعنوية التي لحقت بها جراء ادراج اسمها في القائمة السوداء وبعد المرافعة والمداولة حكمت المحكمة التجارية الابتدائية بتاريخ 19/5/2009م بالزام البنك المركزي برفع اسم الشركة المقاولة من القائمة السوداء مؤقتاً حتى يتم الفصل في موضوع المديونية التي كان البنك الدائن قد سبق له ان تقدم بدعواه الى المحكمة مطالباً بتلك المديونية ، لأن ادراج اسم الشركة في قائمة المدينين المتعثرين قد تم في تاريخ لاحق للدعوى الموضوعية التي رفعها البنك الدائن أمام المحكمة وذلك خاضع للسلطة التقديرية للمحكمة لاسيما أنه من الثابت أن الدعوى الموضوعية (دعوى المديونية) السابق رفعها من البنك لم يتم الفصل فيها و حيث أنه من الثابت أن الشركة المقاولة تسعى من خلال دعواها المستعجلة الى رفع الضرر الذي أصابها والمتمثل في ايقاف تعامل البنوك معها وتشويه سمعتها حسبما ورد في أسباب حكم المحكمة الابتدائية ، فقام البنك الدائن بالطعن في الحكم الابتدائي المشار اليه ، وبعد المرافعة والمداولة اصدرت المحكمة الاستئنافية حكمها بتاريخ 27/10/2009م والذي قضى بالغاء الحكم الابتدائي وإحالة النزاع الى محكمة غرب الامانة باعتبارها المختصة نوعياً ومكانياً وقد جاء في أسباب هذا الحكم أن الدفوع المتعلقة بالنظام العام يجوز التعرض لها من قبل المحكمة والفصل فيها ومن ذلك الدفوع المتعلقة بالاختصاص النوعي وبناءً على ذلك فإن القضاء التجاري لايختص بنظر هذه الدعوى لأن موضوعها المنشور الدوري الصادر من البنك المركزي اليمني ، وهو قرار اداري يختص بنظره القضاء الاداري ولأنه ليس هناك قضاء اداري فيتعين احالة النزاع الى القضاء المدني ، ولعدم قبول البنك الدائن بالحكم قام بالطعن بالنقض في الحكم الاستئنافي السابق ذكره واستند في طعنه الى أن موضوع النزاع تجاري او مرتبط بالاعمال التجارية ولذلك فالاختصاص منعقد للقضاء التجاري وليس القضاء المدني ، وعند نظر الدائرة التجارية بالمحكمة العليا للطعن بالنقض ذكرت في أسباب حكمها أن (ما ذهبت اليه الشعبة التجارية الاستئنافية من أن المحكمة التجارية الابتدائية ليست مختصة نوعياً وقامت بإلغاء الحكم الابتدائي قد وافق صحيح القانون ، لأن العمل الاجرائي يكون معرضاً للبطلان إذا خالف قاعدة من قواعد الاختصاص النوعي والمادة (21) تجاري حددت الاعمال التجارية الاصلية والاعمال التجارية التبعية ، وحيث ان الثابت من أوراق القضية أن الشركة المطعون ضدها لم تدخل في تعامل تجاري مع البنك المركزي ، كما أن سبب دعوى الشركة المقاولة ابتداءً مطالبتها بازالة الضرر وتعويضها جراء القرار أو المنشور الصادر من البنك المركزي لذلك فإن القضاء التجاري غير مختص بنظر هذه القضية إحتراماً للإختصاص النوعي ، وحيث أن المادة (185) مرافعات تنص على أنه (إذا كان الدفع متعلقاً بالنظام العام جاز أبداؤه في أي مرحلة من مراحل الخصومة ولو أمام المحكمة العليا وعلى المحكمة أن تقضي به من تلقاء ذاتها).

وبالرجوع الى قرار مجلس القضاء الاعلى رقم (177) لعام 2010م الصادر بتاريخ 11/10/2010م بشأن انشاء محكمتين اداريتين متخصصتين في كل من أمانة العاصمة ومحافظة عدن وذلك للنظر في القضايا الادارية والذي جاء في المادة(2) من فقرة (أ) دعاوٍ الغاء القرارات الادارية الصادرة عن السلطات والوحدات الادارية العامة وبالطبع فان البنك المركزي اليمني من ضمن الوحدات الادارية العامة ، مما يعني أن الاختصاص بنظر هذه القضية ينعقد للمحكمة الابتدائية الادارية بامانة العاصمة وذلك يعني وجوب تعديل الفقرة الثانية من منطوق حكم الشعبة التجارية بشأن احالة النزاع الى محكمة غرب الامانة بحيث تكون الفقرة احالة النزاع الى المحكمة الادارية بصنعاء وفي هذا ما يكفي لرفض الطعن موضوعاً) وسيكون تعليقنا على هذا الحكم بحسب الاوجه الآتية:-

الوجه الأول: مفهوم القائمة السوداء التي ينشرها البنك المركزي:

تعد البنوك الركيزة الاساسية للنشاط الاقتصادي في المجتمع المعاصر ، فهي الوسيط بين المودعين الممولين وبين المستثمرين المقترضين ، وافراد المجتمع إما أن يكونوا مودعين أو مستثمرين هذه فكرة البنوك التقليدية وعلى هذا الاساس فإن أي إنهيار أو خطر يهددها فإنه يهدد النشاط الاقتصادي للمجتمع باسره ، وبالطبع هذا التصور الرأسمالي للبنوك هو السائد والمعمول به في المجتمعات كافة بما فيها المجتمع اليمني ، في حين ان فكرة المصارف الاسلامية تنطلق من مفهوم الشراكة وليس الوساطة حيث يكون المصرف الاسلامي شريك للمودع يستثمر امواله ويتشارك معه في الارباح ، ولكن في الواقع تسلك المصارف الاسلامية مسلكاً يشابه مسلك البنوك التقليدية حيث تركز البنوك الاسلامية على عمليات مصرفية اسلامية قليلة المخاطر مضمونة الربح محل خلاف بين الفقهاء من حيث اباحتها وهي التورق والمرابحة، وما يعنينا في هذا الموضوع ان نشاط المصارف والبنوك هو جوهر النشاط الاقتصادي ولذلك يبسط البنك المركزي رقابته على البنوك والمصارف مستهدفا اهدافاً عدة منها حماية النشاط المصرفي من الانهيار ، ومن اخطر الاخطار التي تتهدد النشاط المصرفي الديون المتعثرة وكيفية ادارتها وادارة مخاطرها والتعامل معها ومع المدينين المتعثرين ، ومن الاساليب المصرفية لحماية النشاط المصرفي من خطر الديون المتعثرة والمدينين المتعثرين إصدار نشرة دورية او منشور دوري من قبل البنك المركزي اليمني يتضمن أسماء المدينين المتعثرين حيث يتم تعميم هذه النشرة أو المنشور على البنوك والمصارف والمؤسسات التمويلية بهدف تبادل المعلومات بين هذه الجهات عن المدينين المتعثرين وحتى تتخذ البنوك والمصارف الحيطة المناسبة والكافية عند تعاملها مع هؤلاء المدينين المتعثرين ، حيث أن غالبيتهم عندما يتعثر في السداد في بنك معين بقصد المصرف او البنك الاخر ، وهكذا والواقع العملي يشهد أن هناك اشخاص ومؤسسات وشركات مدينة بالمليارات لأغلب البنوك والمصارف اليمنية ، فلو كانت هناك معلومات وبيانات عن هؤلاء ما قامت كثير من البنوك بالتعامل معهم ، والخلاصة ان القائمة السوداء التي يصدرها البنك المركزي دورياً تتضمن اسماء المدينين المتعثرين ويتم نشرها على البنوك والمصارف والمؤسسات المالية التمويلية بهدف حماية النشاط المصرفي في البلاد لما في ذلك من حماية للنشاط الاقتصادي في المجتمع ، وتختلف القائمة السوداء من دولة الى اخرى بحسب المستوى الاقتصادي والاجتماعي للدولة ، فمثلاً القائمة السوداء في اليمن تكون مجملة لا تتضمن بيانات كثيرة لاسباب اجتماعية واقتصادية ، في حين أن القوائم السوداء لبعض الدول تتضمن بيانات كثيرة كاسم الدائن واسم المدين ومقدار الدين وتاريخ استحقاقه وأسباب التعثر.

الوجه الثاني : القائمة السوداء بين القرار الاداري والعمل التجاري:

الواقع ان القائمة السوداء قرار اداري مثلما ذكر الحكم محل تعليقنا لأن حماية النشاط المصرفي من أهم وظائف البنك المركزي بنك الدولة ، وبموجب ذلك فان البنك المركزي طبقاً لقانونه يلزم البنوك والمصارف التجارية والاسلامية بتزويده بالبيانات والمعلومات عن نشاطها والاعمال التي تباشرها والارباح التي تحققها والديون المتعثرة والمبالغ المخصصة لمواجهة مخاطر الديون المتعثرة واسماء المدينين المتعثرين ومقدارها وتوزيعها الزمني وغير ذلك ، والخلاصة ان ادراج اسماء الاشخاص والمؤسسات في القائمة السوداء ليس عملاً تجارياً ولا يستطيع أي بنك او مصرف تجاري إدراج تاجراً أو شخص في القائمة السوداء بمجرد طلب هذا البنك أو ذاك ، حيث ان البنك المركزي يقوم بدراسة هذه الطلبات في ضوء البيانات والمعلومات الهائلة المتوفرة عنده وفي ضوء ذلك يقرر الادراج في القائمة او الازالة ، ولذلك فإن القائمة السوداء عبارة عن قرار اداري يخضع لاختصاص المحكمة الادارية حسبما ورد في الحكم محل تعليقنا.

الوجه الثالث: الاثار والاضرار المترتبة على الادراج في القائمة السوداء:

لذلك اثار واضرار خطيرة من اهمها امتناع الجهات التمويلية التي تملك المال عن تمويل المدين المتعثر ، كذلك تقوم بعض الشركات الموكلة بإلغاء اتفاقيات التوكيل التجاري لوكيلها المتعثر ، كما تمتنع الجهات الحكومية وغيرها عن التعامل المالي مع المدين المتعثر ، إضافة الى ان ادراج الشركة او المؤسسة او الشخص في القائمة السوداء يكون بمثابة شهادة رسمية باضطراب احواله المالية وتعثره وانه قد دخل في مرحلة (الريبة) السابقة للافلاس، ولذلك تاثير كبير على الافعال والتصرفات التي تصدر عن المدين المتعثر خلال هذه الفترة ، والله اعلم.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

اسباب الطعن بالنقض في القانون اليمني

ماهي الحالة التي يجوز فيها الحكم بإعادة القضية الى المحكمة الابتدائية؟

إنكار المحرر العرفي الصادر عن الغير