جزاء استيراد زيوت مخالفة للمواصفات

 


                                                                         أ.د. عبد المؤمن شجاع الدين

                                                      الاستاذ بكلية الشريعة والقانون جامعة صنعاء

 

السلع المخالفة للمقاييس والمواصفات تملأ السوق اليمنية مستغلة حاجة الناس الى سلع رخيصة تناسب القوة الشرائية المنخفضة لغالبية المستهلكين الفقراء, ولكن هذه السلع لا تلبي الاحتياجات الحقيقية لعموم المستهلكين بل انها  تتحول الى خطر داهم يهدد الانفس والاموال, ومع هذا فان القانون يتساهل في مواجهة هذه الظاهرة, ولا شك ان مخالفة المواصفات وعدم مطابقة السلع والخدمات للمواصفات تتداخل مع جرائم اخرى كالغش التجاري والخداع والتقليد .كما ان الغالب في السوق اليمنية ان السلع والخدمات غير المطابقة للمواصفات انها تكون رديئة تلحق الضرر بالمستهلك وماله, ولذلك قرر القانون ان استيراد السلع غير المطابقة للمواصفات يعد جريمة يعاقب عليها القانون وان كان القانون قد تساهل كثيرا مع هذه الجريمة كما سنرى , ومن الاحكام النادرة التي تناولت هذه المسألة الحكم الصادر عن الدائرة الجزائية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 5/2/2011م في الطعن الجزائي رقم (40177) لسنة 1432هـ وتتلخص وقائع القضية التي تناولها هذا الحكم ان صاحب مخرطة اشترى زيت محركات لمخرطته التي تعطلت (لصصت) جراء استعمال الزيت فعندئذ قام صاحب المخرطة بتقديم شكوى الى النيابة العامة ضد المستورد لذلك الزيت.  وفي اثناء قيام النيابة العامة بالتحقيق مع التاجر المستورد للزيت قامت النيابة بإحالة عينة من الزيت الذي استعمله صاحب المخرطة الى هيئة المواصفات التي قامت بفحص الزيت المشار اليه حيث اكد التقرير الصادر عن الهيئة ان ذلك الزيت غير مطابق للمواصفات بالاضافة الى وجود شوائب فيه. وبناء على هذا التقرير قامت النيابة بتحريك الدعوى الجزائية ضد التاجر المستورد للزيت حيث اصدرت النيابة قرار اتهام واحالت المستورد الى القاضي الجزائي بتهمة استيراد زيوت هيدروليك غير مطابقة للمواصفات القياسية لوجود شوائب داخلها وكذا خداع المستورد للزيت للمجني عليه صاحب المخرطة حسبما ورد في قرار الاتهام. واستند قرار الاتهام الى المادتين (17و312) عقوبات والمادة (16) من قانون المواصفات والمقاييس وضبط الجودة الا ان المحكمة الابتدائية حكمت ببراءة المستورد للزيت من جريمة الخداع وثبوت المخالفة المنسوبة لمستورد الزيت وهي قيامه باستيراد زيوت مخالفة للمواصفات كما حكمت المحكمة ايضا بثبوت الضرر الحاصل لصاحب المخرطة جراء استعمال الزيت غير المطابق للمواصفات وحكمت المحكمة لصاحب المخرطة بتعويض  قدره خمسمائة الف ريال وكذا حكمت المحكمة بانه يتوجب على النيابة تحرير مذكرة بصفة مستعجلة الى الهيئة اليمنية للمواصفات والمقاييس بمنع تداول الزيت المشار اليه, وفي مواجهة هذا الحكم الابتدائي سارع المتهم المحكوم عليه باستئناف الحكم الا ان الشعبة الجزائية ايدت الحكم, فلم يقنع المتهم حيث بادر الى الطعن بالنقض في الحكم امام المحكمة العليا التي اقرت الحكم الاستئنافي مسببة حكمها بان (الطاعن قد اثار في طعنه المسائل الموضوعية التي سبق له اثارتها امام محكمة الموضوع التي ناقشت تلك المسائل تفصيلا بموجب السلطة التقديرية المخولة لها قانونا وهذه المسائل الموضوعية لا تختص المحكمة العليا بالنظر فيها باعتبارها محكمة قانون) وسيكون تعليقنا على هذا الحكم بحسب الاوجه الاتية :

 

 

الوجه الاول : موقف قانون المواصفات والمقاييس من جريمة استيراد السلع غير المطابقة للمواصفات :

استند حكم محكمة الموضوع الذي اقره الحكم محل تعليقنا الى قانون المواصفات والمقاييس حيث نصت المادة (16) من القانون رقم (44) لسنة 1999م بشأن المواصفات  والمقاييس وضبط الجودة على انه (يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن ثلاثة اشهر او غرامة مالية لا تقل عن مائتين الف ريال كل من استورد او سمح او سهل دخول أي مواد غير مطابقة للمواصفات) ومن خلال استقراء هذا النص نجد ان العقوبة تخيرية بين الغرامة والحبس والاختيار بينهما متروك للسلطة التقديرية المقررة للقاضي وهو مظهر من مظاهر التساهل كما ان النص قد ذكر الحد الاعلى لعقوبة الحبس الا انه لم يذكر الحد الادني  وذلك يعني انه يجوز ان تكون العقوبة 24 ساعة. وحين المطالعة لحكم محكمة الموضوع الوارد في سياق الحكم محل تعليقنا نجد ان الحكم لم يطبق أي من العقوبتين على سهولتهما بذريعة تقادم الجريمة حيث ان الحكم تعامل مع الموضوع كما لو ان استيراد السلعة غير المطابقة شأن خاص بالشاكي صاحب المخرطة فاعتبر حكم محكمة الموضوع ان الجريمة قد تقادمت بمضي المدة عند المقارنة فيما بين تاريخ الاستيراد وتاريخ شراء صاحب المخرطة للزيت او تاريخ تعطل المخرطة. لان الجريمة متحققة بالاستيراد فاذا انقضت المدة المحددة للتقادم بعد تاريخ الاستيراد سقطت الجريمة بالتقادم حسبما قضى حكم محكمة الموضوع, ولا ريب بان هذا تساهل اخر من القانون وفي الوقت ذاته تساهل من محكمة الموضوع. فاستيراد السلع غير المطابقة للمواصفات ليس جريمة خاصة بالشاكي وليست شان خاص به حيث انها متعلقة بالمصالح العليا للمجتمع المتمثلة في حفظ الانفس والاموال وغيرها من المقاصد, ونوصي المشرع اليمني والقضاء اليمني باعادة النظر في التعامل  مع جريمة استيراد السلع غير المطابقة للمواصفات على اساس انها ماسة بالمجتمع والاقتصاد القومي .

الوجه الثاني : موقف قانون الجرائم والعقوبات من جريمة استيراد سلع مخالفة للمواصفات :

عند التأمل في قرار الاتهام المشار اليه في الحكم محل تعليقنا نجد انه قد اتهم مستورد الزيوت بتهمة الخداع لصاحب المخرطة وكان على النيابة اتهام المورد للزيوت بتهمة ادخال سلع مخالفة للمواصفات لان التقرير الفني الصادر عن الجهة المختصة قانونا وهي هيئة المواصفات قد تضمن ان الزيت يحتوي على شوائب وانه غير مطابق للمواصفات كما ان استعمال هذا الزيت  قد تسبب في تعطيل المخرطة فهذه الشواهد كلها تدل على ان الزيت مغشوش الا ان القانون اليمني قد قصر الغش على السلع المضرة بصحة الانسان والحيوان. وطبقا للنص القانوني الذي سياتي ذكره كان الواجب على النيابة اتهام المستورد للسلعة المخالفة للمواصفات على اساس التهمة التي تنطبق على الفعل وهي مخالفة المواصفات لان الجريمة هي جريمة ادخال سلع غير مطابقة للمواصفات وليست جريمة خداع كما ورد في قرار الاتهام, كما كان يتوجب على محكمة الموضوع ان تباشر سلطتها في التصدي وتنبيه المتهم والنيابة الى الوصف الصحيح للفعل وهو مخالفة السلعة للمواصفات وليس الخداع وبدلا من ذلك حكمت المحكمة بعدم ثبوت جريمة الخداع وبالفعل فانه لا ينطبق على الفعل وصف الخداع وانما مخالفة المواصفات كما سبق القول, ولإيضاح الامر اكثر نذكر المادة (312) عقوبات التي استند اليها قرار الاتهام حيث نصت هذه المادة على انه (يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على سنة او بالغرامة : اولا : كل من خدع او شرع في ان يخدع المتعاقد معه بإحدى الطرق الاتية : 1- عدد البضاعة او مقاسها او كيلها او وزنها او ذرعها او عيارها 2- ذاتية البضاعة اذا كان ما سلم منها غير ما تم التعاقد عليه 3- حقيقة البضاعة او طبيعتها او صفتها الجوهرية او ما تحتويه من عناصر نافعة وعلى العموم العناصر الداخلة في تركيبها 4- نوع البضاعة او اصلها او مصدرها او زيف او نقص الموازين او المكاييل او المقاييس او الدمغات او العلامات او الات الفحص او استعمل شيئا منها مزيفا او  مختلا او استعمل وسائل كان من شأنها ان تجعل الوزن او الكيل او القياس او الفحص غير صحيح؛: ثالثا : من غش او شرع في ان يغش شيئا من غذاء الانسان او الحيوان او العقاقير الطبية او الحاصلات الزراعية او المنتجات الطبيعية معدا اياها للبيع او طرح شيئا من ذلك او عرضه للبيع او باعه مع علمه بغشه او فساده. : رابعا : من طرح او عرض للبيع او باع مواد مما يستعمل في غش اغذية الانسان او الحيوان او العقاقير الطبية او الحاصلات الزراعية او المنتجات الطبيعية على وجه يتنافى مع استعمالها استعمالا مشروعا وتضاعف العقوبة اذا كانت المواد التي تستعمل في الغش ضارة بصحة الانسان او الحيوان .     خامسا: كل من يخالف المواصفات المعتمدة او القرارات الصادرة من الدولة بغرض حد ادنى او حد معين من العناصر الداخلة في تركيب المواد الغذائية او العناصر الطبية او من بضاعة او منتجات اخرى معدة للبيع او فرض اوان او اوعية معينة لحفظها او طريقة معينة لحفظها او طريقة معينة لتحضيرها) ومن خلال استقراء النص القانوني السابق نجد ان البند (خامسا) هوالذي ينطبق على ادخال سلع مخالفة للمواصفات فذلك ظاهر حينما نص على ان (كل من يخالف المواصفات المعتمدة) كما يظهر من خلال استقراء النص القانوني السابق ذكره انه قد تساهل كثيرا مع جريمة استيراد السلع المخالفة للمواصفات المعتمدة ومن صيغة المادة (312) السابق ذكرها يظهر  ان الغش واستيراد السلع المخالفة لا يكون مجرما ومعاقبا عليه الا اذا كان متعلق بصحة الانسان او الحيوان اما اذا كان مضرا  بالأموال ومنها المعدات والآلات والسيارات والمضخات فلم يتم التصريح في النص بتجريمه والمعاقبة عليه وكأن الاموال ليست مقصدا من مقاصد الشريعة .

الوجه الثالث : تعويض صاحب المخرطة على الضررالذي لحقه :

بحسب ما ورد في التقارير والفواتير المرفقة بالدعوى المدنية التبعية المرفوعة من صاحب المخرطة نجد ان الزيت غير المطابق للمواصفات قد تسبب في تلصيص المخرطة أي اعطابها وخراب محركها الذي لا يعمل الا اذا انساب الزيت المناسب اللزج في اجزاء هذا المحرك, ومع ذلك فقد حكمت محكمة الموضوع لصاحب المخرطة بتعويض غير مناسب للضرر الذي لحق بالمخرطة, ويرجع ذلك الى ان القاضي الجزائي يكون خبيرا عارفا بمجال تخصصه الجزائي اما حينما يحكم بالتعويض المدني فانه يتعامل مع التعويض في بعض الاحيان على ان يكون من قبيل الغرامة التي تكون رمزية وليس التعويض الذي ينبغي ان يكون متناسبا مع الضرر .

الوجه الرابع : الحكم بمنع دخول زيت المحركات غير المطابق للمواصفات :

قضت محكمة الموضوع بمنع دخول الزيت غير المطابق للمواصفات. وهذا القضاء صحيح يوافق الغاية التي ابتغاه القانون من تحديد المواصفات المعتمدة الذي يهدف اصلا الى حماية المجتمع والاقتصاد عامة, والله اعلم .      

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

اسباب الطعن بالنقض في القانون اليمني

ماهي الحالة التي يجوز فيها الحكم بإعادة القضية الى المحكمة الابتدائية؟

إنكار المحرر العرفي الصادر عن الغير