مدى قابلية الصلح للطعن

 


 

أ.د.عبد المؤمن شجاع الدين

أستاذ ورئيس قسم الفقه المقارن

كلية الشريعة والقانون_جامعة صنعاء

 

الحكم محل تعليقنا هو الحكم الصادر عن الدائرة المدنية بالمحكمة العليا في جلسة 1/11/2006م في الطعن المدني رقم(25571) لسنة 1427هـ، والذي قضى بأنه:( بعد الإطلاع على عريضة الطعن والرد وعلى الحكم المطعون فيه وما سبقه من محرر ارتضاه  الطرفان تبين أن الشعبة المطعون في حكمها قد رفضت دعوى البطلان لتقديمها بعد فوات الميعاد المقرر في القانون في حين أن المحرر المدعى ببطلانه لا يعتبر حكم تحكيم ولا تنطبق عليه نصوص قانون التحكيم وإنما هو رقم صلح حرره المشائخ الذين تدخلوا بين الطرفين ووافق عليه الطرفان ووقعا عليه ببصمتيهما كما هو مثبت في المحرر ولم تنكر الطاعنة توقيعها عليه ببصمتها وإنما ادعت أنها لم تعلم بمحتوى المحرر وهذه الدعوى ساقطة لا سماع لها ومعلوم أن محررات الصلح لا تنطبق عليها نصوص قانون التحكيم وإنما القانون المدني وكان على الشعبة أن تدرك ذلك وتبني قرارها على أساس ذلك، أما ما أوردته الطاعنة في صحيفة الطعن فليس إلا من قبيل التنصل من محرر الصلح الذي رضيت به ووافقت عليه مما يتعين رفضه وعدم الإلتفات إليه ولا يقبل الطعن ممن قبل الحكم صراحة أو ضمناً طبقاً للمادة(273) مرافعات، وبعد المداولة فقد أصدرت الدائرة حكمها برفض الطعن موضوعاً للأسباب السابق ذكرها وإقرار الحكم المطعون فيه ولزوم التوقف على المحرر المتلقي بالقبول من الطرفين).

وسيكون تعليقنا على الحكم بحسب ما هو مبين في الأوجه الآتية:

الوجه الأول: الفرق بين التحكيم والصلح:

 أشار الحكم إلى أن الصلح يختلف عن التحكيم، وهذه الإشارة صحيحة فالتحكيم حكم والصلح عقد، ولأن التحكيم حكم فإنه يقبل الطعن ببطلانه عن طريق دعوى بطلان ترفع أمام محكمة الإستئناف المختصة، أما الصلح فإنه عقد مثل غيره من العقود ولذلك يجوز لأي من طرفيه أن يتقدم بدعوى بطلانه أمام المحكمة الإبتدائية المختصة وليس محكمة الإستئناف، فحكم التحكيم بإعتباره حكماً فهو يقبل الطعن أمام محكمة الإستئناف عن طريق دعوى البطلان، ومن هذا المنطلق فنحن لا نتفق مع اجتهاد المحكمة العليا في تقرير(لزوم توقف طرفي الصلح على الصلح) الذي يعني عدم جواز الإدعاء ببطلان عقد الصلح، مع ان الحكم قد ذكر ان الصلح عقد يخضع لأحكام العقود المنصوص عليها في القانون المدني، وذلك بقضي انه  يجوز الإدعاء أمام المحاكم الإبتدائية ببطلان العقود كافة بما فيها عقد الصلح إذا تخلف ركن من أركانها أو شرط من شروطها، هذا بالنسبة لمحررات الصلح التي يتم إبرامها خارج نطاق القضاء، أما محررات الصلح التي يتم إثباتها أما المحاكم المختصة أثناء نظرها للخلاف فيجوز الطعن فيها بالإستئناف إذا كان الحكم الإبتدائي قد تضمنها، ويجوز الطعن فيها بالنقض اذا كان الحكم الذي تضمنها حكماً استئنافياً، أما إذا كانت محررات الصلح قد تم إبرامها خارج نطاق القضاء وتم توثيقها أمام أقلام التوثيق فإنها تكون عقوداً موثقة لها حجيتها القانونية الثبوتية إلا أنه ليس هناك مانع قانوني من الإدعاء ببطلانها أمام المحاكم الإبتدائية المختصة، وكذلك الحال بالنسبة لمحررات الصلح العرفية المشهود عليها التي لم يتم توثيقها أو اثباتها في احكام القضاء مع التأكيد على عدم الجدوى العملية للطعن في الأحكام التي تتضمن اتفاقيات الصلح أو الإدعاء ببطلان محررات الصلح التي يتم توثيقها أمام أقلام التوثيق لان القضاء في هذه الحالة لا يهدر ما ورد في هذه المحررات.

الوجه الثاني: تأثير جهل المتعاقد بمضمون المحرر:

من المسلم به في القانون أنه لا يعذر أحد بجهله لأحكام القانون، ولكن هذه القاعدة محل نظر فيما يتعلق بالعقود فالجهل بمضمون المحرر قد يكون بسبب أن المحرر  بلغة لا يجيدها الشخص الذي يوقع على المحرر وذلك يقتضي ان يتم تحرير العقد أو المحرر في هذه الحالة من نسختين متطابقتين احدهما باللغة التي يجيدها الموقع على العقد والأخرى باللغة العربية، كما قد يكون الجهل بمضمون المحرر يرجع إلى أميّة الشخص الذي يقوم بالتوقيع على المحرر كما هو الحال بالنسبة للموقعين على محرر الصلح الذي أشار إليه الحكم محل تعليقنا والذي ذكر أن طرفا المحرر قد وقعا عليه ببصمتيهما، ففي هذه الحالة يجب النص في نهاية المحرر على أنه قد تمت تلاوة مضمون المحرر على أطرافه حيث فهموا مضمون المحرر وقبلوه ووضعوا عليه توقيعاتهم أو بصماتهم بما يفيد رضائهم وعلمهم بمحتواه، ومن وجهة نظرنا فإنه ينبغي تضمين العقود والمحررات العبارة السابق ذكرها حتى ولو كان طرفا العقد يجيدون القراءة والكتابة، لأن عبارات العقود تكون عبارات قانونية مجملة لا يفقهها إلا قلة من المتخصصين، علما بأن غالبية النزاعات تحدث بسبب عدم فهم غالبية الناس لمضمون المحررات التي يوقعون عليها، علماً أن العبارة المشار إليها تختم بها العقود والمحررات في غالبية دول العالم ومنها فرنسا وإيطاليا وبولندا ورومانيا والمجر وقد وقفنا على ذلك وتأكدنا منه.

الوجه الثالث: مدى حجية تصالح المرأة مع الرجل : ذكر الحكم محل تعليقنا أن أحد طرفي الصلح إمرأة وهي الطاعنة أمام المحكمة العليا حسبما ورد في الحكم،  إلا أن الحكم لم يشر إلى علاقة المرأة طرف الصلح بالمتعاقد الآخر المتصالح معها، وعلى ذلك فإذا كانت المرأة من أقارب الرجل فإن صلحها لا يكون لازما، لأن الصلح تنازل، حيث نصت المادة (668) على ان ( الصلح عقد يرفع النزاع ويقطع الخصومة يحسم به الطرفان نزاعاً قائماً أو يتوقيان به نزاعاً محتملاً وذلك بأن يتنازل كل منهما عن جزء من ادعائه)، وقد استقر قضاء المحكمة العليا في اليمن على أن تنازل النساء لأقاربهن باطل لمظنة الحياء والخوف أو الجهل أو الحرج الذي يعتري غالب النساء  مع اقاربهن، وقد ورد في كتابات كثيرة أن الإمام يحيى بن محمد حميد الدين ملك اليمن الأسبق رحمة الله (1911م، 1948م) قد شك في تنازل إحدى النساء لأقربائها فسألها عما إذا كانت قد تنازلت عن بعض نصيبها مما ترك والدها المتوفي فأجابت بأنها قد تنازلت، فقال لها الإمام: والخاتم الذي بيدك لماذا لم تتنازلي به لإخوانك فأجابت: بأن الخاتم من حقها وحدها، وعندئذ استفصلها الإمام رحمة الله عليه عن حيثيات تنازلها لإخوانها فأدرك الامام أن المرأة كانت تجهل حقها في الميراث حينما تنازلت عنه وأن الخوف والحياء من إخوانها كان هو الدافع لتنازلها ومنذ ذلك التاريخ(1942م) استقر القضاء في اليمن على أن تنازل النساء لأقاربهن لا يكون صحيحاً إلا إذا كان على سبيل البيع شريطة أن يقم بتقدير الثمن خبراء عدول وأن تقبض المرأة الثمن بالفعل، وقد صدرت من المحكمة العليا باليمن أحكام كثيرة في فترات مختلفة حتى عام 2012م تبطل تصرفات النساء لأقاربهن إلا بالشروط المشار إليها، وعلى هذا المعنى فإن اجتهاد المحكمة العليا الوارد في الحكم محل تعليقنا قد تخالف ما استقر عليه القضاء في اليمن منذ 1942م وحتى الآن الا إذا كانت دعوى المرأة بعدم علمها بفحوى عقد الصلح قد تم تقديمها بعد تنفيذ عقد الصلح بمدة معقولة فعنئذ لا تعارض بين اجتهاد المحكمة العليا السابق واجتهادها الوارد في هذا الحكم.

أما إذا كانت المرأة الطرف في محرر الصلح أجنبية عن الرجل الذي تصالح معها فإن حجية الصلح أيضاً محل نظر لاسيما وأن المرأة جاهلة أميّة وقد صرحت بأنها وضعت بصمتها على محرر الصلح دون أن تعلم مضمونه ولم يرد في محرر الصلح ما يثبت علم المرأة بمضمون المحرر، هذا أيضاً إذا كانت دعوى المرأة بعدم العلم بمضمون الصلح قد تم تقديمها بعد تنفيذ اتفاقية الصلح بمدة معقولة.

الوجه الرابع: التكييف الشرعي والقانوني لمحرر الصلح:

من المعلوم يقيناً أن الصلح إسقاط لأي تنازل حسبما سبق بيانه، وعلى هذا الأساس يجوز للمصالح أن يسقط حقه كله أو بعضه، وهذا الإسقاط يسمى بالتنازل، ولأن الصلح اسقاط وتنازل فلا يجوز لمدير عقارات الدولة أو الأوقاف أو أي مدير آخر للأموال العامة أو الخاصة أن يصالح على الأموال  التي يديرها، لأنه لا يملك هذه الأموال وإنما يديرها فقط، وكذا لا يجوز للولي والوصي والمنصب على أموال القصار أن يصالح على أموالهم لأن الصلح اسقاط وهو لا يملك ذلك بإعتبار هذا التصرف من التصرفات الضارة محضاً.

وكذا لا يجوز للوكيل أن يصالح عن موكله إلا بموجب توكيل خاص يبين فيه الموكل المصالح  فيه والمصالح عليه تحديداً نافياً للجهالة، وقد أحاطت الشريعة والقانون عقد الصلح بهذه الضمانات لما تترتب عليه من آثار وتبعات خطيرة، وهذه التبعات والآثار تستدعي أحقية المتصالح في رفع دعوى مبتدأة ببطلان عقد الصلح امام المحكمة الإبتدائية المختصة أصلاً بنظر النزاع.

الوجه الخامس: مدى سقوط الحق في دعوى بطلان عقد الصلح:

ذكر الحكم محل تعليقنا أن دعوى المرأة بعدم علمها بفحوى عقد الصلح قد سقطت،  وهذا الإجتهاد يكون صحيحاً إذا كانت قد انقضت مدة معقولة من تاريخ إبرام عقد الصلح وإذا كان المتصالحان الرجل والمرأة قد قبضا أو حازا الشيء المصالح عليه، فبعد تنفيذ عقد الصلح بمدة معقولة لا تقبل دعوى المرأة بأنها لم تكن تعلم فحوى عقد الصلح!!!

كما أن استقرار المراكز القانونية للمتصالحين يستدعي عدم قبول دعوى بطلان الصلح، حتى لا تظل هذه الدعوى تهدد استقرار المراكز القانونية وحتى لا تكون هذه الدعوى سيفا مصلتاً على أطراف عقد الصلح الآخرين والله اعلم.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

اسباب الطعن بالنقض في القانون اليمني

ماهي الحالة التي يجوز فيها الحكم بإعادة القضية الى المحكمة الابتدائية؟

إنكار المحرر العرفي الصادر عن الغير