كيفية تقدير النفقة

 

 

                                                                أ .د. عبد المؤمن شجاع الدين 

كلية الشريعة والقانون – جامعة صنعاء

الحكم محل تعليقنا هو الحكم الصادر عن الدائرة الشخصية بالمحكمة العليا بتاريخ 3/10/2001م الذي قرر قاعدة مفادها ( التلازم بين النفقة وحالة المنفق إيسارا و إعساراً) وقد جاء في حيثيات الحكم فقد (تبين للدائرة أن الطعن موجه إلى الحكم الصادر عن الاستئناف في موضوع قدر مبلغ النفقة وقد استجابت الشعبة الشخصية له وقضت بتعديل مبلغ النفقة من خمسة عشر ألف ريال  إلى ستة آلاف ريال استناداً إلى الكشف  الرسمي للرواتب في جهة عمل الطاعن . وقد أوردت محكمة الموضوع في حيثيات حكمها الأسس التي أقامت عليها قضاءها في تعديل مبلغ النفقة  ومنها التلازم بين النفقة وحال المنفق إيساراً أو إعساراً وإعالة الطاعن لزوجته ومن يعول وبناءً على ما سبق فلم تجد الدائرة مخالفة للقانون فيما قضت به الشعبة وإن تقرير شمول المبلغ المحكوم به نفقة طفليه في أثناء الحضانة ليس قضاء بغير طلب فهو قضاء للطاعن لا عليه , أما ما جاء  في عريضة الطعن من  القول  بمخالفة الحكم للمادة 65 مرافعات التي حددت نفقة الصغير بألف ريال حسبما جاء في الطعن فهو غير صحيح إذ يفهم من النص إن الحكم الصادر عن المحكمة الابتدائية غير قابل للاستئناف في حالتي إذا لم تتجاوز قيمة الدعوى  خمسة آلاف ريال وإذا لم يزد ما حكم به نفقة للصغير أو الزوجة عن 1500 ريال للزوجة وألف ريال بالنسبة  للصغير خلافاً لما جاء في عريضة الطعن من أن المادة المذكورة قد حددت نفقة الصغير بألف ريال ,وبناءً على ما سبق فإن مناعي الطاعن على الحكم ألاستئنافي غير صحيحة يتعين رفضها).

وتعليقنا على هذا الحكم سيكون بحسب الأوجه الآتية :

الوجه الأول: قاعدة (التلازم بين النفقة وحالة المنفق إيسار و إعساراً) التي اقرها الحكم محل تعليقنا نجد أصلها في المادة (150) أحوال شخصية التي نصت على أن (تجب النفقة للزوجة كيف كانت على زوجها كيف كان وقت العقد غذاء وكساء ومسكنا وفراشا ومعالجة  و أخداما والعبرة بحال الزوج يسراً وعسرا وتقدم نفقة الزوجة على غيرها من النفقات) .

وقد أحسن صنعا الحكم محل تعليقنا حينما اعتد بحال الزوج عند تقدير النفقة حيث إن الزوج هو الذي يجب عليه أن ينفق على أولاده و زوجه بحسب حالته المالية أو الدخل الذي يحصل عليه  وقد قال الله سبحانه وتعالى (ولينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلاما آتاها سيجعل الله بعد عسر يسرا).

وعلى هذا الأساس فلا تقدر النفقة بحسب احتياج الزوجة أو الأولاد طالما والحالة المالية أو دخل الزوج لا يلبي كل هذه الاحتياجات و إنما بعضها ,كما أن الحكم محل تعليقنا قد أحسن حينما ذكر كيفية معرفة الحالة المالية للمنفق عن طريق معرفة مقدار راتب المنفق أو الدخل الذي يحصل عليه المنفق حيث يتم تقدير النفقة في ضوء ذلك .

ومن المعلوم أن القانون اليمني والحكم محل تعليقنا  قد أخذا برأي الشافعية الذين ذهبوا إلى أن العبرة عند تحديد النفقة بحالة الزوج المالية لأنه المكلف بالنفقة واحتجوا بقوله تعالى (( لينفق ذو سعتا من سعته )) في حين يذهب الحنابلة والحنفية أن النفقة تقدر باعتبار حال الزوج والزوجة معاً فان كانا موسرين فلها نفقة الموسرين وان كانا معسرين فعلى الزوج نفقة المعسرين وان كانا متوسطين فلها عليه نفقه المتوسطين وان كان احدهما موسرا والأخر معسرا فعليه نفقة المتوسط ، أما المالكية فقد ذهبوا إلى أن المعتبر حال المرأة على قدر كفايتها واستدلوا بقوله تعالى (( وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف )) والمقصود بالمعروف في الآية الكريمة هو الكفاية , والرزق المذكور في الآية هو النفقة , حيث صرحت الآية  بان النفقة تكون على قدر حال الزوجة , وكذا استدل المالكية بقول النبي صلى الله عليه وسلم  لهند (( خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف )) فقد اعتبر النبي صلى الله عليه وسلم كفاية المرأة دون  النظر إلى حال الزوج ، كما احتج المالكية بان النفقة على الزوجة والأولاد واجبة لدفع حاجاتهم فكان الاعتبار بما تندفع به حاجة الزوجة دون النظر إلى حال من وجبت عليه النفقة .  

الوجه الثاني : هناك عدة  معايير لتقدير النفقة منها المعيار الأول : الحالة المالية للمنفق وهي الدخول والعائدات التي يحصل عليها المنفق بصفة منتظمة وثابتة , المعيار الثاني : احتياجات المنفق عليه كاحتياجات الطفل والزوجة إلى الغذاء والسكن والملابس والعلاج والخدمة ......الخ ,المعيار الثالث : العرف فهو الذي يحدد احتياجات المنفق عليه فمثلا العرف يحدد مكونات الغذاء  و كيفياته  و أوقاته ,وهكذا في بقية مكونات النفقة وسوف نبين تأثير العرف على النفقة  تفصيلا  في الوجه الرابع ,المعيار الرابع : التوسط في النفقة  وهو ما يعبر عنه الفقهاء بكفاية النفقة من غير إسراف أو تقتير .

وقد ذكرنا في الوجه الأول أن القانون اليمني والحكم  محل تعليقنا قد جعلا معيار الحالة المالية للمنفق هو المعيار المعتبر عند التطبيق ,ولكن ذلك لا يعني بأي حال من الأحوال إهدار المعايير الأخرى ,إذ ينبغي على القاضي أن يناقش هذه المعايير تفصيلا ضمن أسباب حكمه بتقدير النفقة.

وهذه المعايير تنطبق على كل نوع من أنواع النفقة سواء كانت نفقة زوجة أو نفقة أولاد أو نفقة أقارب

 

 الوجه الثالث :عند تقدير النفقة من المهم بيان مكونات النفقة ,حيث بينت ذلك المادة (149)أحوال شخصية التي نصت على أن (النفقة هي المؤن اللازمة في مال الشخص لغيره لسبب أو نسب وتشمل الغذاء والكسوة والسكن والمعالجة و الأخدام ونحو ذلك )وهناك شروط لمكونات النفقة فيشترط في الغذاء أن يحفظ المنفق عليه من الهلاك أو أعضاءه من التلف وهذا هو الغذاء الضروري , أما الغذاء الحاجي فهو الذي يزيد عن حد الضرورة وهو المشتمل على الإدام (الصبغ) كالخبز مع المرق فالخيز غذاء ضروري لا يستطيع الإنسان العيش بدونه أما المرق وغيره من الإدامات فمن الحاجيات , إذ أن الإنسان يستطيع العيش بدونها , أما الغذاء التكميلي أو الكمالي فهو كالحلويات والفواكه .

وكذلك الحال بالنسبة للكسوة كمكون من مكونات النفقة فهناك الكسوة الضرورية وهي التي تستر العورة وتقي المنفق عليه لسع الهوام والحشرات و الحر والبرد , لان ستر العورة واجب وضروري , وكذلك وقاية الجسم فهي ضرورية وواجبة , والقاعدة أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ,وقدر الفقهاء الكسوة الواجبة ببدلتين أحداهما شتوية و الأخرى صيفية , أما الكسوة الحاجية فهي التي تزيد عن الحد الضروري السابق ذكره , أما الكسوة الكمالية فتندرج فيها الملابس الفاخرة والحلي والمجوهرات والعطور والمساحيق .

أما السكن كمكون من مكونات النفقة فهناك السكن الضروري وهو الحد الأدني للسكن وهو ذلك السكن الذي يأمن فيه المنفق عليه على نفسه ويحفظه من عوادي المعتدين ويستره عن أعين المارة والفضوليين واقله غرفة مفروشة  وحمام , ويشترط الفقهاء في السكن الشرعي الشروط الآتية -1- أن لا يكون موحشاً,بأن يكون في مكان قفر بعيد عن الناس- 2– أن لا يكون مشتركاً في مكان نومه مع احد غير زوجته -3- أن لا يشاركها في منافعه من يؤذيها غالبا ً كزوجته الأخرى أو أولاده من غيرها إلا الصغير الذي لا يعي أمور الزواج إلا  أن ترضي هي بذلك -4- أن يكون صحياً تدخله الشمس والهواء -5- أن يكون فيه  من الأثاث والفرش ما يناسب حاله  أو الوسط من حالهما حسب اختلاف الفقهاء  بشرط أن  لا ينزل عن الحد الضروري وإلا كلف بالحد الضروري مطلقاً  فذلك هو السكن الضروري ,أما السكن الحاجي  فهو الذي يتسع ويزيد قليلا عن السكن الضروري كأن يشمل غرفة أخرى للأولاد ومطبخ مستقل ومكان لنشر الملابس المغسولة , أما السكن الكمالي فهو السكن الواسع والمريح و المشتمل على غرف متخصصة كثيرة كغرفة السفرة وغرفة الجلوس وغرفة الملابس وغرفة البنات وغرفة الأبناء وغرفة الرياضة والمكتبة وغيرها بالإضافة إلى مراب (حوش) لحفظ السيارة وحديقة وغير ذلك من الكماليات ,كما أن أثاث السكن تختلف باختلاف السكن فهناك أثاث ضروري كالفراش واللحاف وهناك أثاث حاجي كالموكيت وهناك أثاث كمالي كاللحافات والبسط والسجاجيد والمقاعد والآسرة وغيرها .

أما نفقة العلاج فهي  من الضروريات في كل الأحوال ما عدا الجراحة التجميلية  , إذ يترتب على عدم العلاج هلاك المنفق عليه أو تلف عضو من أعضائه .

أما نفقة  توفير الخادم للمنفق عليه فهو في كل الأحوال من قبيل النفقات التكميلية.

إضافة إلى ما سبق فتندرج ضمن مكونات النفقة نفقات تعليم الأولاد .

وعند التأمل في الحكم محل تعليقنا يظهر أن المبلغ الذي قدره كنفقة زهيد وهو بالكاد يلبي النفقة الضرورية , ولا تثريب على الحكم في هذا الشأن لان  من تجب عليه النفقة في هذه القضية موظف حكومي بسيط يتقاضى راتباً زهيداً , وقد ذكرنا فيما سبق أن النفقة تقدر على أساس الحالة المالية أو دخل من تجب عليه النفقة .

الوجه الرابع :العرف وتغيرات الزمان والمكان و مستجداته والوسائل و الأدوات المبتكرة باضطراد تؤثر تأثيرا كبيراً في تقدير القاضي للنفقة .

فالعرف يختلف من دولة إلى دولة ومن مدينة إلى مدينة ومن قبيلة إلى قبيلة ومن منطقة إلى منطقة ,ومع هذه التغيرات تتغير مكونات النفقة الحاجية والتكميلية فالأطعمة تختلف باختلاف المناطق والمدن وغيرها ,وكذلك الحال بالنسبة للملابس والمساكن ,كما أن مكونات النفقة السابق ذكرها تتغير بتغير الزمان فمكونات النفقة في العصر الحاضر تختلف عنها قبل أربعين سنة, مثلا البوتجاز في الوقت الحاضر يعد من الضروريات في المدينة على الأقل ,كما أن الاختراعات والموضات في الملابس والمفروشات و الأطعمة والأدوات المنزلية والشخصية تؤثر عند تقدير القاضي للنفقة , كما أن جنس المنفق عليه يؤثر على تقدير النفقة , فنفقة الأنثى تختلف عن نفقة الذكر ,كما تختلف النفقة باختلاف الأعمار فنفقة الرضيع غير نفقة الصبي ونفقة الشاب غير نفقة الشيخ العجوز .

الوجه الخامس  : تقدير النفقة مسالة موضوعية من اختصاص قاض الموضوع الذي يقدرها مراعياً الاعتبارات السابق  ذكرها كدخل المنفق والعرف وحاجة المنفق عليه وغيرها من الاعتبارات السابق بيانها بشرط أن لا تقل النفقة على الحد الضروري مهما كان الوضع الاجتماعي والمالي للمكلف بالنفقة  ,لان هذه الاعتبارات موضوعية تحتاج إلى تحقق قاض الموضوع وتثبته منها كي يكون تقديره للنفقة صحيحاً وسليماً وكي يكون حكمه عنوان الحقيقة , وعلى هذا الأساس نجد أن الحكم محل تعليقنا لم يتدخل ولم يناقش مسالة تقدير قاض الموضوع للنفقة , على انه يجب على قاض الموضوع أن يذكر ويناقش ضمن أسباب حكمه المعايير التي اعتمدها في تقديره للنفقة .

الوجه السادس : استعمل الحكم محل تعليقنا كشف راتب الزوج الصادر عن الجهة التي يعمل بها الزوج وذلك في معرفة حال الزوج المالية وذلك مسلك سديد ,وفي بعض الدول يتم التأكد من الحالة المالية للزوج  عن طريق عدة وسائل منها - الوسيلة الأولى : تكليف أمين سر المحكمة أو كاتبها أو الباحث الاجتماعي التابع للمحكمة بالتحري والبحث عن أموال ودخول من تجب عليه النفقة و رفع تقرير إلى المحكمة يتضمن نتائج التحري  والبحث ,وقد جرت العادة في المحاكم السعودية أن يستعين القاضي (بأعضاء هيئة النظر) وهم من أعوان القاضي ولهم خبرة فنية في القضايا التي تعرض على القضاة ومنها تقدير النفقات – الوسيلة الثانية : تحرير  خطاب من المحكمة إلى الجهة التي يعمل بها الشخص الذي تجب عليه النفقة كي تفيد الجهة عن الدخول المعتادة وغير المعتادة التي يتقاضها هذا الشخص  ,وهذا ما حصل بالفعل في القضية التي تناولها الحكم محل تعليقنا – الوسيلة الثالثة : الاستعلام للبنوك والمصارف للتأكد عما إذا كانت هنالك مبالغ مودعة لحساب من تجب عليه النفقة وكذا استعلام شركات التامين  عما إذ كان من تجب عليه النفقة يتقاضى راتباً أو معاشا أو تأمينا, وكذا استعلام الهيئة العامة للأراضي والسجل العقاري للتأكد عما إذا كانت هناك أراضي وعقارات مسجلة باسم من تجب عليه النفقة وغيرها من الاستعلامات – الوسيلة الرابعة : إثبات الحالة المالية للزوج عن طريق شهادة الشهود متى اطمأنت المحكمة إليها .

الوجه السابع : أحكام  القضاء بتقدير النفقة لها حجية مؤقتة ,فقد ذكرنا في الوجه الأول  من هذا التعليق أن النفقة تقدر على أساس الحالة المالية للزوج , ومستحيل أن تبقى الحالة المالية للزوج على النحو الذي كانت عليه عند الحكم بالنفقة , فالحالة المالية للزوج تتغير إيسارا أو إعسارا, وتبعا لذلك فان الحكم بتقدير النفقة لا تكون له حجية ثابتة  فيجوز للمنفق عليه المطالبة بزيادة النفقة إذا تحسنت الحالة المالية للزوج أو أيسر الزوج أو حصل على دخل جديد أو إضافي ثابت  , وتتم المطلبة عن طريق دعوى يتم رفعها إمام المحكمة المختصة  ولا يجوز التمسك في هذه الحالة بحجية الحكم السابق بالنفقة ,وفي الوقت ذاته يحق للزوج إذا أعسر أو خسر بعض دخله أو كله أو حصل المنفق عليه على دخل أخر إن يطلب إنقاص أو تخفيض النفقة  المحكوم بها عليه .

وقد قضت محكمة النقض المصرية بأنه ( من المقرر بقضاء النقض أن الأحكام الصادرة بالنفقة ذات حجية مؤقتة و أنها مما يقبل التغير والتبديل وترد عليه الزيادة والنقصان بسبب تغير الظروف كما يرد عليها الإسقاط بتغير دواعيها ).

 

 

 

 

 

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

اسباب الطعن بالنقض في القانون اليمني

ماهي الحالة التي يجوز فيها الحكم بإعادة القضية الى المحكمة الابتدائية؟

إنكار المحرر العرفي الصادر عن الغير