مكونات الحكم القضائي
أ.د.
عبدالمؤمن شجاع الدين
الأستاذ
بكلية الشريعة والقانون والمعهد العالي للقضاء
الحكم محل تعليقنا هو الحكم الصادر عن الدائرة
المدنية بالمحكمة العليا بتاريخ 16/11/2005م في الطعن رقم 22868 لسنة 1426هـ
وخلاصة هذا الحكم ( انه من خلال مطابقة الدائرة لعريضة الطعن بالنقض فقد وجدت
الدائرة ان المطاعن قد اتجهت الى بيانات الحكم الواجب توفرها وبرجوع الدائرة الى
الحكم المطعون فيه فقد وجدت انه خالياً من وقائع المحاكمة والجلسات عدا جلسة واحدة
فقط كما ان الحكم لم يتضمن الوقائع والمذكرات المقدمة من طرفي النزاع بما في ذلك
عريضة الاستئناف والرد عليها واكتفى الحكم بالإحالة الى ملف القضية ، وإن كان
الحكم المطعون فيه قد اسهب في حيثياته ومنطوقه فان ذلك لا يحصنه من البطلان لعدم
تأسيسه على وقائع محاكمة تمت امام هيئة الحكم التي اصدرته ولذلك فان الدائرة
المدنية لا تجد مناصاً من التقرير بنقض الحكم المطعون فيه بجميع فقراته وارجاع
الكفالة وتحميل المطعون ضده مخاسير التقاضي) وسيكون تعليقنا بحسب الأوجه الآتية:
الوجه الأول : تقرير مبدأ وحدة الحكم:
صرح الحكم محل تعليقنا على وجوب إلتزام الأحكام
بمبدأ وحدة الحكم التي تعني أنه ينبغي ان
يكون الحكم القضائي بكل مشملاته ومكوناته وحدة واحدة وان تكون كل مكونات الحكم
واقسامه ضمن وثيقة واحدة وهي وثيقة الحكم ، فوفقاً لهذا المبدأ لايجوز ان تكون أي
من مكونات الحكم القضائي خارج الحكم ولو كان ملف القضية واوراقها ، فالحكم القضائي
ينبغي ان يتضمن كامل وقائع المحاكمة وان الاحالة الى الاوراق لا تكون الا بالنسبة
للتفاصيل مثل مذكرات الخصوم وتقارير الخبراء المطولة ، والحكم محل تعليقنا وغيره
من احكام المحكمة العليا تدل على انه قد استقر قضاء المحكمة العليا على الأخذ
بمبدأ وحدة الحكم ، كما أن ذلك دليل على ان المحكمة العليا باليمن قد حسمت الخلاف
الذي كان سائداً بين قضاة اليمن بشأن وقائع المحاكمة حيث كانت المدرسة السائدة
والغالبة في اليمن تأخذ بمبدأ وحدة الحكم ، فالحكم القضائي عند هذه المدرسة يجب ان
يتضمن كافة وقائع المحاكمة وهي كل ما قيل امام المحكمة وما تم تقديمه امامها من
مذكرات وتقارير ، في حين ظهرت مدرسة حديثة كانت تكتفي بالاشارة إلى الوقائع بإيجاز
بالغ ثم تحيل الى ملف الى القضية بعبارة ( حسبما هو مبين في محضر الجلسة – حسبما
هو مبين في المذكرة المقدمة منه) والحكم محل تعليقنا قد انتصر بحق للمدرسة السائدة
عند قضاة اليمن التي كانت تثبت وقائع الحكم
واجراءات المحاكمة كافة الى درجة انه كان في الماضي لا يتم الرجوع الى ملف
القضية لأن وقائع الحكم قد اشتملت على كافة اجراءات المحاكمة وتضمن كل ما قيل او
تم تقديمه امام المحكمة ، ونحن نختار ما تذهب اليه هذه المدرسة لموافقتها لمبدأ
وحدة الحكم التي تستدعي ان يكون الحكم القضائي وحدة واحدة بديباجته ووقائع
المحاكمة واسباب الحكم ومنطوقه وخاتمته ، فلا يعقل ان يكون جزءاً من اجزاء الحكم
(الوقائع) خارج وثيقة الحكم.
الوجه الثاني: الخلط بين محصل النزاع وملخص
النزاع:
محصل النزاع هو : مسرد لإجراءات المحاكمة التي
تمت امام المحكمة حيث يتم فيه اثبات كل الاجراءات والمذكرات المقدمة امام المحكمة
واقوال الخصوم والشهود والخبراء ويتم اعداده من واقع محاضر جلسات المحاكمة الا انه
ينبغي ان يتضمن تفاصيل اكثر مما تتضمنه محاضر الجلسات حيث يكون المحصل كافٍ لاثبات
وقائع وإجراءات المحاكمة ويتم اعداد هذا المحصل قبل قرار المحكمة قفل باب المرافعة
وحجزها للحكم، حيث يتم عرض المحصل على الخصوم لمطابقتها والتأكد من تضمن المحصل
لكافة الوقائع وأوجه الدفاع والدفوع والأدلة وغيرها ، وتطلب المحكمة من الخصوم
الإفادة بالموافقة على المحصل، وهذه العادة المتبعة في اليمن عادلة وشفافة وموافقة
للعدالة وقواعد واسس الحكم العادل ، حيث تنفي عن القاضي شبهة التحكم والاستبداد في
تحصيل اجراءات المحاكمة واستبعاد ما يراه الخصوم مهماً، ومحصل الحكم هو الذي يشكل
فيما بعد عند تحرير الحكم وقائع القضية الذي يتم إيراده بعد ديباجة الحكم ،
والاعداد المسبق لمحصل النزاع يوفر كثيراً من الجهد والوقت عند تحرير الحكم ويسهم
في صدور الاحكام قبل الميعاد المقرر قانوناً لتحريرها، اما ملخص النزاع : فهو عمل
قضائي محض يندرج ضمن اسباب الحكم ويأتي في بداية اسباب الحكم حيث يقوم القاضي
باستخلاص الدعوى والدفوع والطلبات والرد والادلة ثم يقوم بتكييف الدعوى واسباغ
التسمية القانونية عليها ثم يقوم بترتيب الآثار القانونية والواقعية عليها، ثم
يناقش الادلة والطلبات وفي ضوء ذلك يقوم القاضي بصياغة الاسباب القانونية والاسباب
الواقعية للحكم ، ولا ريب ان الطريقة المثلى والعادلة لاعداد ملخص القضية هو رجوع
القاضي الى مذكرات الخصوم وتقارير الخبراء والعدول لأنها اكثر شمولاً وتفصيلاً وتعبيراً عن المراد ، فلا
ينبغي للقاضي ان يكتفي بمطالعة محصل النزاع السابق ذكره ، وان كانت هناك اوجه شبه
بين محصل النزاع وملخص النزاع السابق ذكرهما الا ان هناك فارق جوهري بينهما يتمثل
في ان الملخص يكون ضمن الاسباب في حين المحصل يكون ضمن وقائع الحكم ، كما ان
القاضي لا يكون طليق اليد في اعداد محصل النزاع حيث يجب ان يثبت فيه اقوال الخصوم
كما هي او بألفاظ قريبة الى ألفاظهم ، اما الملخص فهو عمل قضائي محض اذ يحق للقاضي
ان يلخص الدعاوي والطلبات والدفوع والأدلة
بالألفاظ القضائية والقانونية الرصينة وبالطريقة التي يراها وبحسب فهم
القاضي لها ولا قيد على القاضي في ذلك الا ان يكون لتلخيصه واستدلاله اصل في اوراق
القضية ، كما ان القاضي عندما يلخص القضية لا يتقيد بالترتيب الزمني لإجراءات
المحاكمة فمثلاً يقوم القاضي بتلخيص الدعوى وطلباتها وادلتها وان كانت اجراءات
واوقات قد فصلت بين الدعوى وبين ادلتها اتي تم ايرادها في جلسات متعددة ومتباعدة ،
في حين ان محصل النزاع ينبغي ان يكون مرتباً ترتيباً زمنياً بحسب تسلسل إجراءات
المحاكمة.
والخلط بين محصل النزاع وملخصه هو الذي أدى الى
اكتفاء بعض القضاة بملخص النزاع دون إيراد محصل النزاع، ومن وجهة نظرهم انه يكفي
اثبات اجراءات المحاكمة في محاضر جلسات المحاكمة ولا حاجة لإيرادها في الحكم ،
وليس خافياً عدم سلامة وجهة النظر هذه لإخلالها بمبادئ الحكم ومنها مبدأ وحدة
الحكم واستقلاليته.
الوجه الثالث : تقرير الحكم محل تعليقنا لمبدا
استقلال الحكم القضائي وكفايته :
قرر الحكم محل تعليقنا مبدأ استقلال الحكم
القضائي الذي يعني : ان تكون وثيقة الحكم القضائي مستقلة عن غيرها من الوثائق حتى
ولو كانت اوراق القضية ، فالحكم القضائي ينبغي ان يكون له اصل في اوراق القضية وان
يستند ويبنى عليها لكن ذلك لا يعني ان يكون الحكم معلقاً ومرهوناً بتلك الاوراق،
فعند تنفيذه او الاحتجاج به يكفي ابراز وثيقة الحكم ولا يتطلب الامر ابراز الوثائق
والادلة التي استند اليها ذلك الحكم وبني عليها ، وحتى يحقق الحكم القضائي مبدأ الاستقلالية
والكفاية يجب ان يشتمل الحكم في آن واحد على ملخص ومحصل كاف يتضمن إجراءات المحاكمة وطلبات الخصوم
ومذكراتهم وادلتهم وحضورهم وغيابهم وما قالوه وما قدموه في جلسات المحاكمة وان
يتضمن المحاكمة وان يتضمن الحكم فهم القاضي لتلك الوقائع والادلة عن طريق الملخص
والتسبيب بالقدر اللازم الذي يجعل القضية والحكم فيها مفهوم للقاضي وللخصوم
وللمحكمة الأعلى، فعندئذ يكون الحكم القضائي مستقل وكاف بذاته ، وهذا ما كرسه
الحكم محل تعليقنا.
الوجه الرابع : تقرير الحكم محل تعليقنا لمبدأ
تكامل الحكم :
الحكم القضائي يتكون من الديباجة التي تتضمن
تاريخ النطق بالحكم واسم القاضي او القضاة الذين اشتركوا في النطق واسماء اطراف
القضية ونوعها وموضوعها وبعد الديباجة تأتي وقائع واجراءات المحاكمة التي تتضمن
الاجراءات والمذكرات والاقوال والادلة التي تم تقديمها امام المحكمة ، وبعدئذ تأتي
اسباب الحكم ثم منطوقه، ومكونات الحكم السابق ذكرها لكل واحدة منها غايات وأهداف
فلا ينبغي الخلط او التداخل فيما بينها ، لكن ذلك لا يعني بأي حال من الأحوال
استقلال كل مكون من مكونات الحكم عن غيره ، لأن ذلك يخل بالمبادئ الأخرى للحكم
لاسيما مبدأ وحدة الحكم ، وقد سبق ان ذكرنا المقصود بمبدأ وحدة الحكم، اما مبدأ
تكامل الحكم: فهو يعني ان الحكم القضائي متكامل بكل مكوناته واجزائه وان كل مكون
مرتبط ارتباطاً جدلياً ومصيرياً بمكونات الحكم الاخرى ، فمثلاً تاريخ النطق بالحكم
الذي يذكر في بداية ديباجة الحكم متعلق ومرتبط بمنطوق الحكم الذي يرد ذكره في
نهاية الحكم واسم القاضي الذي يرد ذكره في ديباجة الحكم متعلق بأجزاء الحكم الأخرى
التي تثبت القضاة الذين استمعوا المرافعة واشتركوا في المداولة والنطق بالحكم
وتوقيعات القضاة في ذلك الحكم ، وهكذا كل اجزاء الحكم.
الوجه الخامس : انسجام مبادئ الحكم القضائي
(الوحدة +الاستقلالية+ الكفاية+التكامل):
مبادئ الحكم القضائي السابق ذكرها لا تتنافر
لأنها منسجمة، فكل مبدأ هو بمثابة أساس
يتأسس عليه الحكم القضائي ويؤدي الدور المناط به وتكفل هذه المبادئ مجتمعة وجود
حكم عادل يكون عنواناً للحق والحقيقة ، فلكل مبدأ من هذه المبادئ غاية وهدف يحققها من جانبه ، ولذلك ينبغي النظر
الى هذه المبادئ والتعامل معها وتطبيقها مجتمعة حتى لا يطغى مبدأ على غيره او ان
يعطل وظيفة غيره، فينبغي على القاضي عند تطبيق هذه المبادئ ان يكون تطبيقه
متوازناً وان يراعي مجال عمل كل مبدأ من هذه المبادئ، والله اعلم.
تعليقات
إرسال تعليق