تقدير السعاية في القضاء اليمني

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 


أ.د. عبد المؤمن شجاع الدين

الأستاذ في كلية الشريعة والقانون جامعة صنعاء

السعاية  تثير جدلا واسعا في اليمن من حيث مشروعيتها ومقدارها ومدى مناسبة مبالغ.السعاية مع الجهد الذي يبذله الساعي بالإضافة عدم تنظيم القانون اليمني للسعاية او السمسرة وترك تقديرها للعرف الذي يخلقه السماسرة انفسهم فضلا عن علاقة   السعاية بالفساد المالي وتكريس ثقافة الفساد واكل اموال الناس بالباطل  ومدى انسجام السعاية مع المبادىء والأصول القانونية ومبادئ العدالة والباعث على احالة تقدير السعاية الى العرف الذي يصنعه السعاة والسماسرة، ولاشك أن للقضاء اليمني موقف من هذا الجدل بشأن السعاية، ومن الأحكام القضائية التي تظهر موقف القضاء من السعاية الحكم الصادر عن الدائرة التجارية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ ١١/١/٠١٠٢م في الطعن التجاري رقم (٢٥٣٨٣ ) وتتلخص وقائع القضية التي تناولها الحكم محل تعليقنا أن أحد السعاة تقدم بدعوى أمام المحكمة التجارية الابتدائية بدعوى ضد أحد التجار ذكرالساعي  فيها ان التاجر حضر إلى مكتبه العقاري وطلب منه البحث على أرضية في شارع معين وقد قام المدعي طالب السعاية بالتوفيق بين التاجر ومالك الأرض على اساس ان يكون سعر اللبنة ثلاثة مليون وخمسمائة الف ريال على أن تكون سعاية الساعي المشار اليه مائتين وخمسون الف ريال عن كل لبنة من المساحة (١٥ لبنة) بحيث يكون  اجمالي مبلغ السعاية أثنى عشر مليون ريال وقد خلصت محكمة أول درجة إلى الحكم للمدعي الساعي بمبلغ خمسمائة ألف ريال سعاية على قدر سعيه، وقد طعن التاجر المحكوم عليه بالحكم الابتدائي أمام محكمة الاستئناف . كما قام بالطعن بالاستئناف شخص اخر زعم ان محكمة اول درجة رفضت تدخله امامها و ذكر في استئنافه بأنه الأحق بالسعاية كونه المكلف اصلا بالبحث عن الأرض والتوفيق فيما بين البائع و المشتري وفي استئنافه طلب الحكم له بنسبة ٥% من قيمة الأرض كسعاية اي مبلغ إثنى عشر مليون وخمسمائة ألف ريال  بحسب ماهو مقرر في العرف السائد في اليمن وقد خلصت الشعبة الاستئنافية إلى تأييد الحكم  الابتدائي  معللة حكمها بأن الحكم الابتدائي قد ناقش كافة العناصر التي تم تقدير السعاية على اساسها  وخاصة الدور الذي قام به الساعي، فلم يقنع الساعي بالحكم الاستئنافي حيث قام بالطعن بالنقض في الحكم الاستنافي وقد تضمن طعنه بالنقض نعيه على الحكم الاستئنافي بأنه خالف القانون حينما ايد الحكم الابتدائي الذي قام بتقدير السعاية على أساس الجهد المبذول من الساعي  وليس على اساس النسبة المحددة في العرف التي أشارت إليها المادة (٧٢٣ ) تجاري حيث ان مقدار السعاية حسب العرف السائد هي نسبة ٥% إذا زاد المبلغ عن مائة مليون و٠١% من الثمن إذا كان المبلغ أقل من ذلك، والدائرة من خلال دراستها لملف القضية وبحثها في أسباب الحكم الابتدائي تجد أنه قد قام بتقدير السعاية تقديرا صحيحا على أساس الجهد الذي بذله الساعي وذلك من السلطة التقديرية لقاضي الموضوع مما يستوجب رفض الطعن بالنقض.

الوجه الأول : ماهية السعاية والأعمال التي يقوم بها الساعي :

السعاية في الشريعة الإسلامية هي العمل الذي يقوم به الشخص ومن ذلك قوله تعالى ( وان ليس للإنسان إلا ما سعى وان سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الاوفى ) وكذا قوله تعالى (وان سعيكم لشتى ) وعلى هذا فإن السعاية في مجال بيع وشراء العقارات وغيرها هي قيام الشخص بإعداد قاعدة بيانات تتضمن البيانات والعناوين اللازمة للأراضي والعقارات المراد بيعها أو شراؤها وعناوين الراغبين بالبيع والشراء وشروطهم ومتطلباتهم وتقديم الاستشارات اللازمة لهم من حيث استكمال الوثائق و المستندات اللازمة لإتمام التصرفات في العقارات وغيرها المراد التصرف فيها، كما أن الساعي يقوم بتنظيم وتنسيق المواعيد و المقابلات  فيما بين البائع والمشتري و متابعتهما لهذه الغاية، كما أن الساعي يقوم بالتوفيق بين البائع و المشتري وتقريب وجهات النظر مستفيدا من المعلومات والخبرات التي اكتسبها من خلال عمله في مجال السمسرة حيث ان لديه البيانات اللازمة عن الأسعار ومتوسطها بحسب الزمان والمكان، ومعرفة ماهية السعاية والأعمال التي يقوم بها الساعي تكتسب أهميتها  لان تقدير السعاية يتم في ضوئها عند عدم وجود الاتفاق على ذلك.

الوجه الثاني : واقع السعاية في اليمن :

من خلال العرض الموجز لماهية السعاية والأعمال التي يقوم بها الساعي المشار إليها في الوجه الأول نجد أنها تحتاج إلى عمل منتظم ومنظم وفي مكتب يضم سجلات يدوية وحاسوبية تتضمن البيانات والمعلومات اللازمة السابق ذكرها في الوجه الأول كما أن هذه المكاتب تتضمن موظفين ومستشارين يقدمون لها الخدمات والاستشارات اللازمة لتمكينها من عملها وهذا ما تقوم به مكاتب (السمسرة ) في العالم، أما الحال عندنا في اليمن فيختلف حيث ان المكاتب العقارية تفتقر إلى الأمور      اللازمة السابق ذكرها كما أن غالبية السعاة ليس لهم مكاتب اصلا وليس لديهم أية بيانات أو وثائق عن الأشياء التي يسعون فيها كما أنهم لا يحتفظون بالبيانات والمستندات عن الأشياء التي قد سبق لهم السعي فيها حيث يتجه جهدهم فقط إلى الحصول على مبلغ السعاية الجزافي ،كما أن هناك فهم مغلوط للسعي والسعاية حيث يتداخل هذا الفهم في احيان كثيرة مع النصب والتدليس والاحتيال والابتزاز فكل من علم ببيع أو شراء يريد سعاية وكل من عرف بأن هناك منزل أو شي معروض للبيع يريد سعاية! ! وكل من حضر البيع والشراء ولو لم يكن له دور في ذلك يريد سعاية !! بل في احيان كثيرة يبحث البائع والمشتري عن أشخاص لحضور البيع حتى يأخذوا السعاية! !

وفي كل الأحوال يختلط مفهوم السعاية عند السعاة في اليمن بالمغالطة والتدليس لأن المهم عندهم وبيت القصد هو إتمام عملية البيع والشراء واستلامهم للسعاية الجزافية وهذا يفسر كثرة النزاعات العقارية في اليمن بل أن كثيرا من السعاة الذين لا ينالون نصيبهم من غنيمة السعاية يسعون إلى نقض عملية البيع والشراء ومن أفضل التعليقات على واقع السعاية في اليمن تعليق احد القضاة بان السعاية في اليمن مأخوذة من قوله تعالى :ويسعون في الارض فسادا. - ولذلك نوصي القانون اليمني وكذا كل من يسعى إلى إصلاح الدولة والمجتمع وتجفيف منابع المشاكل والفساد بأن يتم تنظيم السعاية وبيان شروطها واجراءتها والأعمال التي يجب على السعاة القيام بها لاستحقاق السعاية وكذا حذف عبارة :ان يتم تحديد مقدار السعاية الى العرف في السعاية يحدده السعاة انفسهم او مكاتب العقارات التابعة لهم فلايعقل ان يحيل القانون تقدير السعاية للسعاة انفسهم اقول هذا براءة لذمتي لأن القانون قد أحال هذه المسألة للسعاة والعرف الفاسد الذي يقرره السعاة أنفسهم ولم يحدد ماذا ينبغي عليهم عمله ؟

الوجه الثالث : السعاية وعلاقتها بالفساد في اليمن :

حدد العرف الفاسد الذي صنعه السعاة والسماسرة السعاية بنسبة معينة وهي النسبة المذكورة في.الحكم محل تعليقنا عشرة في المائة او خمسة في المائة من قيمة العقار بصرف النظر عن الجهد الذي يبذله الساعي، وتبعا لذلك فهناك سعاة  يحصلون على ثلاثمائة مليون او أقل او أكثر مقابل حضورهم في مجلس بيع أو اشارتهم إلى منزل أو أرض بانها للبيع أو تسليمهم لرقم هاتف البائع والمشتري، ولأن السعاية في ظل هذا المفهوم الفاسد تدر عائدات خيالية فقد تحول غالبية اليمنيين إلى سعاة ينتظرون بفارغ الصبر إلى أي عملية بيع أو شراء وشاع هذا المفهوم الفاسد حتى صار عرفا يدافع عنه المفسدين، ثم انتقل مفهوم السعاية والعمولة إلى عقود الدولة التي لايبرم فيها عقد إلا بعمولة أو سعاية فاتجهت الأنظار إلى الحصول على العمولة أو السعاية وصارت جودة العمل والمصلحة العامة من الأمور الثانوية لأن المهم هو السعاية أو العمولة.

وبذلك فإن اتجاه المصلحين الى هذه المسألة سوف يحد من ثقافة الفساد والإفساد، كما أن مفهوم السعاية في اليمن قد أصاب بمقتل المروءة  والشهامة لان العرف اليمني كان ينفر أشد النفور من السمسرة والسمسري فكان اليمني ينتصب مقاتلا عندما يقال له : ياسمسري .أما الان فقد صارت هذه الكلمة مقننة في القانون الملعون، مع ان اليمنيين كانوا يقدمون الخدمات والمعلومات لبعضهم البعض بدون مقابل ويعتبرون ذلك دليلا على مرؤتهم وشهامتهم أما الان فقد صارت (مكاتب الخدمات العامة ) تبيع هذه الخدمات بمبالغ طائلة ودفعة واحدة ونسبة كبيرة من عملية قيمة العقار المباع وقد حصل أن كانت نسبة السعاية التي يحصل عليها السعاة أكبر من نصيب أحد الورثة من قيمة الأرض.

الوجه الخامس : موقف الشريعة الإسلامية من السعاية :

السعاية في الشريعة الإسلامية يجب أن يتم تقديرها على أساس الجهد و السعي الذي بذله الساعي فعلا عملا بقوله تعالى (وان ليس للإنسان إلا ماسعى وان سعيه سوف يرى ثم يجزى الجزاء الاوفى ) فهذه الآية الكريمة تقرر أن الأجر ينبغي أن يكون مساويا للسعي الذي يبذله الإنسان، كما أن الله تبارك وتعالى يقرر أن مساعي الناس وجهودهم تختلف من حيث ثمارها وعائداتها ومقاديرها واوقاتها وان الأجر ينبغي أن يكون متناسبا معها فقد قال تعالى ( وان سعيكم لشتى )، كما أنه قد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة (أجرك على قدر نصبك ) اي ان أجرها على قدر تعبها وجهدها كما أنه من         الأصول المقررة في فقه الشريعة الإسلامية ( التقابل أو المساواة بين الأجر والعمل ) اي انه ينبغي أن يكون العوض مساويا إلى حد ما لما يقابله، وقد خرج بعض الفقهاء منها قاعدة (تقابل العوضين) بمعنى المساواة بينهما، والنصوص والقواعد في هذا الباب كثيرة لايتسع المجال لمجرد الإشارة إليها في هذا التعليق الموجز، وبناء على ذلك فإن تحديد نسبة معينة من قيمة المبيع تدفع للسعاة بصرف النظر عن الجهد الذي قاموا به فعلا أمر غير مقبول في الشريعة الإسلامية،كما أن الشريعة       الإسلامية ترفض بشده ان يكون ثمن كلمة الساعي : (هذا البيت للبيع) ثمنها عشرة مليون ريال على افتراض أن قيمة البيت (٠٠٢ ) مليون، فوفقا لأحكام الشريعة الإسلامية يجب على الساعي أن يثبت الجهد الذي قام به والوقت الذي أمضاه في سبيل التوفيق بين البائع والمشتري وكذا المال الذي دفعه في سبيل التوفيق وفي ضوء ذلك يتم تقدير السعاية التي يستحقها نظير سعيه كما فعل القاضي الشجاع في الحكم محل تعليقنا.

 

الوجه السادس : موقف القواعد القانونية من السعاية :

القواعد القانونية المعتبرة تشترط أن تكون هناك مساواة فيما بين الالتزامات المتقابلة بمعنى ينبغي أن تكون هناك مساواة فيما بين الجهد الذي يبذله الساعي وبين مبلغ السعاية المستحقة للساعي ولا بأس من حدوث تفاوت يسير لا يزيد عن ٠١% حتى لايكون هناك غبن، لأن الغبن من عيوب الإرادة.

الوجه السابع : موقف القانون اليمني من السعاية :

أشار القانون المدني في المادة (٨٥٥ ) إلى السعاية حيث نصت تلك المادة على ان ( أجرة الدلال أن باع العين بنفسه وبإذن صاحبها على البائع ويعتبر العرف أن سعى بين البائع والمشتري وباع المالك بنفسه ) ومن خلال استقراء هذا النص نجد أن القانون يفرق بين الدلال والساعي، فالدلال يتولى عملية البيع نيابة عن البائع أما الساعي فهو الذي يقوم بالتوفيق بين البائع و المشتري ويسعى للإصلاح بينهما لإتمام البيع ولكنه لايقوم بالبيع بنفسه، وقد قرر النص القانوني السابق إن الساعي يستحق أجره بحسب العرف، وقد ذكرنا فيما سبق  العرف الفاسد في اليمن الذي يجازف في تقدير السعاية بنسبة مابين خمة في المائة الى عشرة في المائة من قيمة المبيع، ولذلك فنحن نوصي القانون اليمني بأن يتم تعديل النص السابق ذكره بحيث يتم تقدير السعاية على أساس الجهد المبذول من الساعي وليس بحسب العرف علما بأن القانون التجاري قد قرر صراحة  في المادة (٧٢٣) على أن تقدير أجرة الساعي يتم على اساس ما جرى عليه العرف ولذلك ينبغي تعديل هذه المادة من القانون التجاري التي نصت على أنه ( إذا لم يعين أجر السمسار في القانون أو في الاتفاق عين وفقا لما يقضي به العرف فإذا لم يوجد عرف قدره القاضي تبعا لما بذله السمسار من جهد وما صرفه من وقت في القيام بالعمل المكلف به ) .

الوجه الثامن : العرف الفاسد في اليمن في تقدير السعاية :

سبقت الإشارة إلى النصوص الشرعية والقانونية التي تقرر أن يتم تقدير السعاية على أساس الجهد الذي بذله الساعي وهي نصوص صريحة لا تحتاج إلى تأويل أو تفسير الا أن ثقافة الفساد في اليمن أبت الا ان تخالف تلك النصوص وان تقرر نسبة من قيمة المبيع سعاية وقد أشارت إلى هذه النسبة المذكرات المقدمة من الساعي والمشار إليها في الحكم محل تعليقنا وتقدير السعاية على هذا النحو ونسبة هذا التقدير إلى العرف يخالف الشريعة والقانون - حيث أن العرف المخالف للشريعة والقانون لاعتبار له على أساس انه عرف فاسد حسبما يقرر علماء الأصول ولذلك فقد التفت الحكم محل تعليقنا عن الأخذ     بالعرف في تقدير السعاية حيث قام بتقديرها على أساس الجهد الذي بذله الساعي حسبما هو مذكور في الحكم المشار اليه .

الوجه التاسع : معايير تقدير السعاية :

من خلال دراسة النصوص والقواعد السابقة التي تناولت السعاية نجد أن هناك معايير لتقدير السعاية ومنها الجهد المبذول من الساعي المتمثل في حضوره إلى مقر البائع والمشتري واتصالاته ومتابعته لهما والأشخاص الذين استعان بهم والخدمات والاستشارات التي قدمها للبائع والمشتري والنتيجة التي توصل إليها في سعيه والوقت الذي استغرقه في التوفيق بين البائع والمشتري ومساعيه للتوفيق بينهما عند اختلافهما في مسائل وتفاصيل البيع وكذا المبالغ التي صرفها خلال الفترة التي امضاها في سبيل التوفيق بين البائع والمشتري، وتبعا لذلك قد تزيد أو تنقص السعاية بحسب السعي فلا تكون مبلغا معلوما او نسبة محددة من قيمة المبيع حسبما هو مقرر في العرف الفاسد المخالف للشريعة والقانون، والله أعلم .

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

اسباب الطعن بالنقض في القانون اليمني

ماهي الحالة التي يجوز فيها الحكم بإعادة القضية الى المحكمة الابتدائية؟

إنكار المحرر العرفي الصادر عن الغير