الفرق بين الجنون والمرض النفسي في المسؤولية الجنائية

 


أ.د.عبد المؤمن شجاع الدين

الأستاذ في كلية الشريعة والقانون والمعهد العالي للقضاء

الحكم محل تعليقنا هو الحكم الصادر عن الدائرة الجزائية بالمحكمة العليا بتاريخ 14/2/2007م في الطعن الجزائي رقم 27858 لسنة 1427ه وخلاصة هذا الحكم( أنه لما كان الطاعن قد استند في طعنه على القول بمخالفة الحكم المطعون فيه للقانون حسبما ذكر في طعنه ،حيث قال الطاعن: أنه لا ينبغي لرجل عاقل أن يقتل بهذه السهولة دون سبق ترصد ودون نزاع أو مشاكل فهذه القرائن تدل على أن الفاعل مصاب بعاهة نفسية مستديمة وأن المحكمة لم تتأكد من هذه المسألة الفنية الدقيقة ، ومن خلال دراسة الدائرة لملف القضية فقد ظهر لها أن هذا النعي غير سديد ، لأن هناك قرائن قوية وكافية تدل على أن المتهم ليس مصاباً بعاهة الجنون ومن ذلك إقرار المتهم الصريح والمفصل بمحاضر جمع الإستدلالات ومحاضر التحقيق التي أجرتها النيابة العامة وكذا أقوال المتهم المثبتة في محاضر جلسات المحكمة الإبتدائية وكذا اعتراف المتهم الصحيح والمفصل بكافة عناصر الواقعة كما أن مظهر المتهم كان يدل على عدم جنونه حيث ظهر ذلك لمحكمة الإستئناف من خلال ملاحظتها ومعاينتها لمظهر ومنطق المتهم ورفضه عرض هيئة الحكم تكليف محام للدفاع عنه ، حيث استخلصت محكمة الإستئناف من كل ذلك عدم صحة دعوى المتهم بالجنون، وحيث أن الموضوع على هذا النحو وحيث أن المقرر أن تقدير حالة المتهم العقلية من المسائل الموضوعية التي تستقل بالفصل فيها محكمة الموضوع مادامت قد أقامت تقديرها على أسباب سائغة فعندئذ لا تكون ملزمة بعرض المتهم على أهل الخبرة إلا حينما يثور الشك لديها بشأن الحالة العقلية والنفسية للمتهم طبقاً لنص المادة(208) إجراءات ، ولما كان الثابت من أوراق القضية ومدونات الحكم الإبتدائي المؤيد بالحكم الإستئنافي المطعون فيه أن المحكوم عليه قد أقر بالتهمة المنسوبة إليه إقراراً مفصلاً في محاضر جمع الإستدلالات وتحقيقات النيابة العامة وأمام المحكمة الإبتدائية ولم يدفع بشيء مما أثاره أمام محكمة الإستئناف من دعوى الجنون، لذلك فإن الطعن لا يقوم على أساس صحيح، ولذا فإن الحكم المطعون فيه قد بني على أدلة سائغة تكفي لإقامة العقوبة بموجبها مما يتعين رفض الطعن موضوعاً وإقرار الحكم المطعون  فيه لخلوه من مخالفة القانون أو الخطأ في تطبيقه أو تأويله، لذلك وبعد المداولة وعملاً بأحكام المواد 431و434و435و438و442 إجراءات فإن الدائرة تقضي بقبول الطعن شكلاً ورفضه  موضوعاً وقبول مذكرة العرض الوجوبي من النيابة العامة  وإقرار الحكم المطعون فيه الصادر من محكمة .... فيما قضى به من تأييد حكم محكمة..... الإبتدائية والقاضي بقتل المتهم ....ضرباً بالسيف أو رمياً بالرصاص حتى الموت قصاصاً لقتله عمداً وعدواناً المجني عليهم.....و......و.....ومصادرة الجريمة والله ولي الهداية والتوفيق).

وسيكون تعليقنا على هذا الحكم بحسب ما هو مبين في الأوجه الآتية:

الوجه الأول: متى تكون إحالة المدعي بالجنون إلى اللجنة الطبية المختصة ؟:

حددت المادة (208) إجراءات التي أشار إليها الحكم محل تعليقنا الحالات التي يجب فيها إحالة المتهم إلى الخبير حيث نصت هذه المادة على أنه ( يكون طلب الإحالة إلى الخبير وجوبياً في الأحوال الآتية :ب- لتحديد حالة المتهم النفسية عندما يثور الشك أثناء القضية حول قدرته على إدراك ماهية  أفعاله وإرادتها) وبناءً على ذلك فإن استدلال الحكم محل تعليقنا على عدم وجوب إحالة المتهم إلى الخبير استدلال صحيح يوافق القانون، لأن الإحالة الوجوبية للمتهم إلى الخبير لا تكون إلا في حالة الشك ، أما بالنسبة للمتهم الذي أشار إليه الحكم فليس هناك ثمة شك بشأن قدرته على إدراك ماهية أفعاله وإرادتها للأسباب التي ذكرها الحكم محل تعليقنا والسابق ذكرها.

الوجه الثاني: الموازنة القضائية بين قاعدتي (القاضي خبير الخبراء) وقاعدة (لا يجوز للقاضي أن يحل محل الخبير):

تدق التفرقة بين القاعدتين المشار إليهما عند بعض المهتمين وقد أشار الحكم محل تعليقنا إلى هذه التفرقة الدقيقة ، حيث أن مجال إعمال قاعدة (القاضي خبير الخبراء) هو الحالات التي يوجب فيها القانون ندب الخبراء أو الإحالة إليهم بالإضافة إلى المسائل الفنية الدقيقة التي لا يستطيع القاضي فهمها أو الإلمام بها بإمكانياته المهنية والمعرفية ، في حين يكون مجال إعمال قاعدة (لا يجوز للقاضي أن يحل نفسه محل الخبير)  في المسائل الفنية الدقيقة التي لا يستطيع القاضي فهمها والإلمام بها بإمكانياته الذاتية والمهنية والمعرفية وكذا تلك الحالات التي يوجب القانون ندب الخبراء فيها .

الوجه الثالث: القرائن التي يستدل بها القاضي على جنون المتهم:

تناول الحكم محل تعليقنا القرائن التي يستدل بها القاضي على عدم جنون المتهم ومنها  عدم خلطه في الكلام أو اضطراب حديثه حيث استدل الحكم محل تعليقنا بصدور الإقرار الصريح من المتهم بإرتكابه جريمة قتل ثلاثة أشخاص دفعة واحدة وعدم تخبطه في  الإقرار سواء في أثناء محاضر جمع الإستدلال أو أثناء التحقيق معه في النيابة أو الإدلاء بأقواله أمام المحكمة وتناسق كلامه وعدم تناقضه وإصراره على أقواله  في مراحل التقاضي المختلفة ورفضه تعيين محام عنه وإصراره على قدرته على الدفاع عن نفسه، وكذا عدم ظهور علامات الجنون الخارجية عليه كالهذيان أو عدم الإعتناء بالمظهر الخارجي وغيرها من علامات الجنون الظاهرية التي يستطيع الشخص الإستدلال بها على الجنون أو عدمه بالإضافة إلى أن المتهم لم يثير مسالة جنونه إلا أمام محكمة الإستئناف، واستدلال الحكم محل تعليقنا بتلك القرائن أو الشواهد يوافق المادة (208) إجراءات السابق ذكرها ، لأن هذه القرائن تزيل الشكوك وتؤكد أن المتهم غير مجنون ، إضافة إلى أن الحكم قد وافق الفقه الإسلامي الذي يعرف الجنون بأنه آفة تصيب العقل فتعطل قدرته  على التمييز والإدراك حيث  يخلط المجنون ويغير في كلامه وتصرفاته ويعجز عن تذكر الأفعال والأقوال والربط بينها .

الوجه الرابع: الفرق بين المرض النفسي والجنون:

أشار الحكم محل تعليقنا  إلى ذلك حينما ذكر الحالة النفسية للمتهم ومحاولته الإدعاء بالجنون وكذا يظهر أن الحكم قد تناول ذلك حينما رفض دعوى الجنون، ولأن الحكم  قد أشار إلى ذلك إجمالاً فسوف نشير إلى الفرق بين الجنون والمرض النفسي ، حيث يقول أهل الإختصاص: إن هناك فروق بين المرض النفسي والجنون (المرض العقلي) فالمريض النفسي يعي تصرفاته ويعتبر مسؤلاً عنها  ولا يلحق الأذى بنفسه أو بالآخرين، أما المريض العقلي (المجنون) فهو يعاني من اختلال في جهازه العصبي وفي خلايا الدماغ  مما يجعله يفقد صلته بالمجتمع وبالناس من حوله ولا يدرك تصرفاته بل  أن اللاشعور هو الذي يتصرف بالنيابة عنه ، والمريض العقلي يرفض العلاج والمساعدة  وهو  يشكل خطراً على نفسه وعلى المجتمع، ويقرر  المختصون في هذا المجال أنه لا يكاد يخلو انسان من نوع من الأمراض النفسية فالناس جميعهم يعانون من القلق والإكتئاب أو الإنفعالات والكثير من الأمراض النفسية لا يمكن تفسيرها ، ومع هذه التفرقة بين المرض العقلي ( الجنون )و(المرض النفسي) إلا أنه من الممكن أن يتحول المرض النفسي إلى مرض عقلي إذا تم إهمال المرض أو المريض نفسياً.

الوجه الخامس: عدم تفرقة النص القانوني (208) إجراءات بين المرض النفسي والمرض العقلي:

حيث نصت المادة السابق ذكرها في الفقرة (ب) على أن ( يكون طلب الخبير وجوبياً في الأحوال الآتية : لتحديد الحالة النفسية للمتهم عندما يثور الشك أثناء القضية حول قدرته على إدراك ماهية أفعاله وإرادتها). فالظاهر من مضمون النص القانوني السابق أنه أراد المرض العقلي الذي يؤثر على إدراك ماهية الأفعال وإرادة فعلها إلا أن النص استعمل مصطلح (حالته النفسية) مما فتح المجال واسعاً أمام القتلة والمجرمين للتعذر بالحالة النفسية للإفلات من العقوبات المقررة شرعاً وقانوناً على الجرائم التي ارتكبوها، وهذه الظاهرة شائعة في اليمن، وسداً لهذه الوليجة فإننا نوصي بتعديل العبارة الواردة في النص القانوني من (حالته النفسية ) إلى (حالته العقلية).

كما أننا نوصي  بأن تكون الإحالة  للمتهم المريض بمرض عقلي إلى لجنة طبية مختصة مشكلة من أطباء مختصين بالأمراض العقلية لا يقل عددهم عن ثلاثة (وليس الخبير الواحد) لأن الإثبات الجنائي بالشاهد الواحد خاصة في الحدود والقصاص غير مقبول في الشريعة الإسلامية إضافة إلى أن تشعب الأمراض العقلية يستدعي أن يتم فحص المتهم المريض من قبل (لجنة طبية) وليس (طبيب واحد ) كما أن الفحص من قبل لجنة طبية  يوفر الإطمئنان بسلامة التقرير الطبي،  وحتى يكون هذا الأمر مفهوماً وملزماً فنحن نوصي بتعديل المادة السابق ذكرها بإستبدال كلمة الخبير ب(لجنة طبية)،والله أعلم.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

اسباب الطعن بالنقض في القانون اليمني

ماهي الحالة التي يجوز فيها الحكم بإعادة القضية الى المحكمة الابتدائية؟

إنكار المحرر العرفي الصادر عن الغير