متى يثبت القصاص بشهادة الواحد؟

 


أ.د.عبد المؤمن شجاع الدين

الأستاذ بكلية الشريعة والقانون جامعة صنعاء

 

نظراً لجسامة القصاص فقد تشدد الفقهاء والقانون اليمني في إثبات الجريمة الموجبة للقصاص في النفس وما دونها، لأن عقوبة القصاص من العقوبات المهلكة للنفس أو المتلفة للعضو والتي يتعذر استدراك أي خطأ فيها، ومن مظاهر التشدد في إثبات الجريمة الموجبة للقصاص اشتراط إثباتها عن طريق الإقرار الصريح في مجلس القضاء أو ما في حكمه أو شهادة شاهدين عدلين ذكرين مسلمين بالغين عاقلين راشدين وأن تكون الشهادة شهادة رؤية موضوعها مشاهدة الشاهدين للفعل المكّون للجريمة الموجبة للقصاص ومشاهدة الآلة المستعملة في القتل واستعمال الجاني لها حتى تدخل أو تمور في جسد المجني عليه فيموت أو يتلف عضو من أعضائه جراء هذا الاستعمال غير المشروع لآلة القتل المحدد أو المثقل وما في حكمه، والخلاصة أنه ينبغي أن تبين الشهادة الركن المادي للجريمة الموجبة للقصاص كاملاً، وعند التأمل فيما قرره الفقهاء وأخذ به القانون اليمني نجد أن ذلك هو الوضع المثالي لإثبات الجريمة الموجبة للقصاص، ولذلك فأن هذا الوضع المثالي لا يتحقق إلا في أحوال نادرة جداً، وكان هذا الوضع لا يثير قلقاً أو مخاوفاً في العصور السابقة حينما كان الناس يستعظمون حرمة الدماء فلا تقع جرائم القصاص إلا في أضيق نطاق وتبعاً لذلك فهي لا تشكل خطراً على المجتمع، إلا أنه في العصر الحاضر بعد ضعف الوازع الديني وتطور وسائل القتل والجرح وأدواته وتطور مهارات وفنون الإجرام لإخفاء معالم الجرائم وبعد أن استعان عتاولة الإجرام بكبار المحامين والمستشارين، صار من الواجب على القضاء أن يواكب بعلمه وفهمه وأحكامه واجتهاداته هذه التطورات وأن يستحضر في أثناء قضائه وحكمه هذه الاعتبارات، وهذا ما يقوم به بالفعل القضاء المعاصر في اليمن، ومن الأحكام التي تدل على ذلك الحكم محل تعليقنا وهو الحكم الصادر عن الدائرة الجزائية بالمحكمة العليا باليمن في جلستها المنعقدة بتاريخ 20/12/2016م في الطعن الجزائي رقم (58560ك) لسنة 1438ه وتتلخص وقائع القضية التي تناولها هذا الحكم أن أحد الأشخاص حاول أن يهاجم أخر إلى داخل سيارته  بسبب تلاسن بين الشخصين فقام الشخص الذي كان داخل سيارته بإشهار بندقيته الآلية  وإطلاق طلقتين تحذيرتين في الهواء فلم يتوقف المهاجم الذي كانت بيده عصا (صميل) فقام الشخص بإطلاق الطلقة الثالثة في الجانب الأمامي من عنق المهاجم فأراده قتيلاً في الحال ولم يشاهد واقعة القتل إلا شاهداً واحداً فقط، وبعد واقعة القتل قام الجاني بإسعاف المجني عليه إلى المستشفى وعند وصوله إلى المستشفى أفاد بأنه الذي قام بإطلاق النار على المجني عليه، وفي أثناء المحاكمة أدعى بأن المجني عليه عندما هاجمه امسك بالبندقية محاولاً انتزاعها منه وأنه تهازر البندقية مع المهاجم وأن يده أي الجاني لم تكن على الزناد وأن إطلاق النار كان من قبل المجني عليه نفسه، إلا أن محكمة أول درجة لم تقبل دعواه حيث حكمت بإعدامه قصاصاً لأن شهادة الواحد قد تساندت مع شهود الإقرار الذي شهدوا بأن الجاني عند إسعافه للمجني عليه  قد أقر بأنه الذي أطلق النار على المجني عليه إضافة إلى قرينة ملكية الجاني للسلاح الذي تمت الجريمة به إضافة إلى قرينة مكان ومدخل الطلقة وهو أسفل العنق من الجهة الأمامية، وقد قام الجاني المحكوم عليه باستئناف الحكم الابتدائي إلا أن محكمة الاستئناف قضت بتأييد الحكم الابتدائي للأسانيد ذاتها فقام الجاني المحكوم عليه بالطعن بالنقض أمام المحكمة العليا التي قامت بإصدار حكمها محل تعليقنا الذي أقر الحكم الاستئنافي المؤيد للحكم الابتدائي، وخلاصة أسباب حكم المحكمة العليا أنه (من حيث الموضوع فقد عاب الطاعن على الحكم المطعون فيه مخالفته للقانون لأنه لم يناقش القصد الجنائي بالإضافة إلى تناقض أسبابه مع منطوقه واستناده إلى اعتراف لا وجود له......ألخ، والواضح أن ما أثاره الطاعن لا وجه له لمنافاته للواقع وما أستند إليه الحكم من أدلة قطعية الدلالة على قتله المجني عليه من اعتراف صحيح مشهود عليه أما ما أثاره الطاعن بشأن المهازرة على الآلي بينه وبين المجني عليه فيكذبه الواقع وشهادة شاهد الرؤية بالإضافة إلى محل الإصابة في المجني عليه وذلك يوجب رفض الطعن موضوعاً، كما أنه بالاستناد إلى المادة (434) إجراءات التي أوجبت على النيابة العامة عرض القضايا المحكوم فيها بالإعدام أو القصاص أو الحد الذي يترتب عليه ذهاب النفس أو عضو من الجسم على المحكمة العليا باعتبارها محكمة موضوع في هذا النوع من القضايا فقد قامت الدائرة بدراسة جميع محتويات ملف القضية وتبين لها أن الحكمين الابتدائي والاستئنافي المؤيد له قد صدرا عن محكمتين لهما الولاية والاختصاص ومن قضاة ذوي ولاية في نظر القضية والحكم فيها وأن المحكمتين قامتا بإجراء المحاكمة والحكم في القضية بإجراءات شرعية وقانونية سليمة لم يشوبها أي عيب مؤثر في سلامتها وأن الحكمين قد استندا إلى أدلة شرعية وقانونية سليمة هي اعترافات الجاني في محاضر جمع الاستدلالات وتحقيقات النيابة العامة وشهادة شاهد الرؤية وشهادة شاهدي الإقرار الأمر الذي يقتضي من الدائرة الجزائية إقرار الحكم المطعون فيه المؤيد للحكم الابتدائي) وسيكون تعليقنا على هذا الحكم بحسب الأوجه الآتية:

الوجه الأول: إثبات القصاص في النفس وما دونها:

ألحق الفقهاء القصاص بالحدود فيما يتعلق بإثباته عملاً بقاعدة (الحدود تدرأ بالشبهات) واتفق الفقهاء على أن هذه القاعدة فقهية وليست نصية، وباعتبارها قاعدة فقهية فأنه يتم تطبيقها على القصاص إيضاً للجامع المشترك فيما بين الحدود والقصاص وهو جسامة العقوبة وتعذر تدارك الخطأ في العقوبة حسبما ورد في التشريع الجنائي لعبد القادر عودة وأصول النظام الجنائي الإسلامي للدكتور محمد سليم العوا وغيرهما، وعلى هذا الأساس فلا مجال لإثبات القصاص بالقرائن لأن القرائن شبهات يدرأ بها الحد أو القصاص ولا يثبت بها، ولذلك فوسيلة الإثبات محصورة في الحدود والقصاص في الشهادة والإقرار وهذا هو الأصل، إلا أن القضاء في اليمن وغيرها من الدول الإسلامية بدءً من نهاية القرن التاسع عشر الميلادي وتحديداً منذ صدور مجلة الأحكام العدلية العثمانية بدأ القضاء يعتمد إلى حد ما على القرائن في إثبات القصاص أما عن طريق استكمال الدليل الأصلي (شهادة الواحد) مثلما حصل بالنسبة للحكم محل تعليقنا أو عن طريق الاعتماد على القرائن المتساندة وحدها فقد أشار إلى ذلك أحد فقهاء الزيدية المتأخرين حينما قال نظماً:

سأهدي لمن رام القضاء أدلةً ..... بها يهتدي إن مظلم الخطب أعضلاً

يمين وإقرار نكول قسامة ..... وبينة علم به يا أخا العلاء

كذاك الذي يبدو له من قرائن ..... إذا بلغت حد اليقين فحصلاً

كما نصت مجلة الأحكام العدلية العثمانية صراحة على جواز إثبات القصاص بالقرائن القاطعة وحدها، فإذا وجدت آثار دماء على ملابس المتهم في جريمة القتل أو ظهر  من التحليل المعملي أن هذا الدم هو دم القتيل أو وجدت بصمة المتهم على السلاح المستعمل في الجريمة أو تم فحص المظروف أو المقذوف الناري فثبت نسبته إلى سلاح المتهم وغيرها أو ثبت إقرار المتهم بالقتل عن طريق تسجيل صوته بواسطة الهاتف أو غير ذلك فأن الفقهاء يثبتوا القصاص بالقرائن إذا كانت قوية الدلالة بحيث تقارب اليقين، وفي عام 1943م صدر حكم بالقصاص من حاكم إحدى المديريات أو النواحي في اليمن قضى هذا الحكم بالإعدام قصاصاً وتعزيراً على شخص شهد عليه الشهود بأنه صعد من السائلة ادنى القرية وبيده الجنبية ملطخة بالدماء وعند معاينتهم للمكان الذي صعد منه وجدوا المجني عليه يلفظ أنفاسه الأخيرة ولا وجود لأي شخص في مكان واقعة القتل غير الجاني والمجني عليه فلم يشاهد أحد واقعة القتل، وقد أثار هذا الحكم ضجة في القضاء حينها وقد عُرض هذا الحكم على ولي العهد حينها الأمام أحمد حميد الدين رحمه الله الذي قام بدوره برفع القضية إلى والده الأمام يحيى حميد الدين رحمه الله الذي قام بالمصادقة على هذا الحكم رغم معارضة بعض القضاة والعلماء حينها بل أن الإمام قام بترقية القاضي الذي أصدر الحكم وقام بتعيينه حاكماً لزبيد ولا زال بعض القضاة في اليمن حتى يومنا هذا حينما يتعذر عليهم إثبات القصاص بالشهود أو الإقرار أو تتخلف بعض شروط الشهادة أو الإقرار أو يستند إلى القرائن يذكروا في منطوق الحكم عبارة (الإعدام قصاصاً وتعزيراً أو حداً وتعزيراً) لأن الإعدام تعزيراً يجوز إثباته بالقرائن لأنه من المتعذر إثبات القصاص على النحو الذي اشترطه الفقه الإسلامي بالإقرار أو شهادة الشهود لاسيما أن الفقه الإسلامي هو المرجع في اليمن في تطبيق النصوص القانونية وتفسيرها، وعلى هذا الأساس فأن الحكم محل تعليقنا قد تضمن اجتهاداً بجواز إثبات القصاص بشهادة الشاهد الواحد إذا توفرت قرائن أخرى تدل على نسبة واقعة القتل العمد إلى الجاني.

الوجه الثاني كيفية تكميل الحكم محل التعليق لشهادة الواحد:

من خلال مطالعة الحكم محل تعليقنا والحكمين الابتدائي والاستئنافي نجد أنه لم يكن هناك في مسرح الجريمة إلا شاهداً واحداً هو الذي شاهد الواقعة ونتيجتها ومعلوم أن نصاب الشهادة لإثبات القتل العمد الموجب للقصاص هو شاهدان عدلان، كما أن القصاص يثبت بالإقرار الصريح في مجلس القضاء في حين أن الإقرار الصادر عن المتهم في القضية التي تناولها الحكم محل تعليقنا كان عبارة عن شهادات شهود بأن المتهم قد أقر بعد الواقعة بأنه الذي أطلق النار على المجني عليه، ومع ذلك فقد اعتبر الحكم محل تعليقنا ذلك قرينة يقينية تساند شهادة الواحد في إثبات القصاص، كما أن الحكم محل تعليقنا قد استند إيضاً إلى قرائن أخرى تساند شهادة الواحد وهي مدخل الطلقة وهو أسفل رقبة المجني عليه مما يدل على أن زناد البندقية كان في يد الجاني وأن الطلقة قد خرجت من نافذة السيارة وأن فوهة البندقية كانت خارجة من السيارة جهة المجني عليه كما أن مكان الإصابة يدل على القصد الجنائي وهو القتل العمد فالجاني تعمد المجني عليه في موضع قاتل وهو الرقبة إضافة إلى أن شاهد الرؤية قد نفى ضمن شهادته تعارك الجاني والمجني عليه على البندقية أو أن المجني عليه قد وصل إلى داخل السيارة وأمسك بالبندقية، ومن وجهة نظرنا أن استناد إلى الحكم  إلى القرائن الأخرى المكملة لشهادة الواحد يحقق مقصد من أهم مقاصد الشريعة الإسلامية وهو حفظ النفوس في العصر الحاضر الذي تساهل الناس فيه في قتل النفس التي حرم الله قتلها.

الوجه الثالث: تعرض المحكمة العليا لموضوع الدعوى في قضايا القصاص:

أشار الحكم محل تعليقنا في نهايته إلى جواز تعرض المحكمة لموضوع الدعوى في قضايا القصاص بموجب المادة (434) إجراءات التي نصت في نهايتها على أنه (يجوز للمحكمة العليا في هذه الحالة التعرض لموضوع الدعوى) وهذا التعرض جوازي ويكون هذا التعرض عن طريق قيام المحكمة العليا بالدراسة الدقيقة لموضوع الدعوى والإجراءات التي تمت فيها والأدلة المثارة فيها والأحكام الصادرة فيها حتى ولو لم يتم إثارتها في الطعون والمذكرات المرفوعة إلى المحكمة العليا وهذا من قبيل الاستثناء حيث أن المحكمة العليا محكمة قانون وليس موضوع، ولهذا الاستثناء ما يبرره بالنسبة لقضايا القصاص حيث تتأكد المحكمة العليا بما لا يدع مجالاً للشك من أن محكمتا الموضوع قد قامتا ببحث ومناقشة المسائل الموضوعية وتطبيق النصوص القانونية عليها، ولذلك نجد أن الحكم محل تعليقنا قد أشار في نهايته إلى أن المحكمة العليا قد قامت بدراسة كافة مستندات القضية وتأكدت من سلامة الإجراءات التي قامت بها محكمتا الموضوع ومن سلامة الأدلة التي استندت إليها محكمتا الموضوع، والله أعلم.

 

 

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

اسباب الطعن بالنقض في القانون اليمني

ماهي الحالة التي يجوز فيها الحكم بإعادة القضية الى المحكمة الابتدائية؟

إنكار المحرر العرفي الصادر عن الغير