خصوصية التحكيم في المسائل الجنائية في اليمن


                                                              أ.د. عبد المؤمن شجاع الدين

                                                    الاستاذ بكلية الشريعة والقانون جامعة صنعاء

 

من الاشكاليات الخاصة في اليمن التحكيم في المسائل الجنائية خلافا لما هو مقرر في دول العالم, وهذا يستدعي الاشارة الى المبررات والاعتبارات التي جعلت القانون اليمني يجيز التحكيم في المسائل الجنائية كما ان هناك اثار تترتب على جواز التحكيم في المسائل الجنائية فضلا عن تقويم وتقييم تجربة القانون اليمني في التحكيم في المسائل الجنائية, فهذه الاعتبارات مجتمعة كانت الباعث على التعليق على الحكم الصادر عن الدائرة المدنية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 9/5/2011م في الطعن المدني رقم (44203) لسنة 1432هـ وتتلخص القضية التي تناولها الحكم محل تعليقنا ان شخصا اتهم شخصا انه قام بالشروع في قتله عن طريق عصابة شكلها الجاني حيث قاموا بالاعتداء عليه وضربه والحقوا به الجنايات المبينة في التقرير الطبي وقد تدخل المشائخ فيما بين الجاني والمجني عليه وعرضوا عليهما حسم القضية الجنائية (الشروع في القتل والاعتداء عن طريق تحكيم احد المشائخ وبالفعل قام الجاني والمجني عليه بتحكيم احد المشائخ الذي باشر اجراءات التحكيم المنصوص عليها في القانون حتى خلص الى الحكم على الجاني بتسليم الاروش المحددة في التقرير الطبي فلم يقتنع الجاني حيث قام بتقديم دعوى بطلان امام محكمة الاستئناف المختصة الا ان الشعبة المدنية بمحكمة الاستئناف قضت برفض دعوى  بطلان حكم المحكمة فقام الجاني المحكوم عليه بالطعن بالنقض في الحكم الاستئنافي امام المحكمة العليا التي اقرت الحكم الاستئنافي معلله حكمها ان نعى الطاعن على الحكم الاستئنافي المطعون فيه بانه قد     خالف الشرع والقانون غير صحيح حيث تأكد للدائرة من خلال دراستها لأوراق القضية ان الحكم المطعون فيه قد التزم بوثيقة التحكيم والاحكام والنصوص الشرعية حيث استند الحكم المطعون فيه الى التقرير الطبي وشهادة الشهود اضافة الى حضور المحكم نفسه في الواقعة كما ان الحكم قد بني على وثيقة التحكيم المكتوبة التي قام بالتوقيع عليها الطرفان المحتكمان وبمن فيهم الطاعن نفسه كما ان المحكم قد التزم بالإجراءات القانونية اثناء نظره للقضية وذلك كله كاف للرد على مناعي الطاعن مما يتعين رفض الطعن) وسيكون تعليقنا على هذا الحكم بحسب ما هو مبين في الاوجه الاتية :

الوجه الأول : جواز التحكيم في المسائل الجنائية في القانون اليمني :

من خلال مطالعة الحكم محل تعليقنا نجد انه قد اقر الحكم الاستئنافي المؤيد الحكم المحكم في قضية جنائية وهي شروع في قتل واعتداء على سلامة جسم المجني عليه, ولا شك ان قضاء الحكم تطبيق صحيح      لأحكام القانون الذي اجاز التحكيم في المسائل الجنائية بدلالة النص الواردة في المادة (5) تحكيم التي نصت على انه لا يجوز التحكيم فيما يأتي 1- الحدود واللعان وفسخ الزواج 2- رد القضاة ومخاصمتهم 3- المنازعات المتعلقة بإجراءات التنفيذ جبرا 4- سائر المسائل التي لا يجوز فيها الصلح 5- كل ما يتعلق     بالنظام العام, ومن خلال استقراء هذا النص نجد انه لم يرد ذكر المسائل الجنائية من المسائل التي لا يجوز التحكيم وذلك يعني جواز التحكيم في المسائل الجنائية غير تلك الواردة في النص القانوني وهي الحدود واللعان .

 

الوجه الثاني : دوافع القانون اليمني على اجازة التحكيم في المسائل الجنائية :

لا ريب ان للقانون بيئته التي يؤثر ويتأثر فيها, ومن هذا المنطلق فقد استجاب قانون التحكيم اليمني للواقع والتقاليد العرفية القبلية السائدة في المجتمع اليمني المحافظ, فالأعراف اليمنية الضاربة جذورها في التاريخ وحتى اليوم تنظر الى انه من المناسب والافضل حسم كافة الخلافات والنزاعات بما فيها المسائل الجنائية عن طريق التحكيم الذي يكون وسيلة مناسبة للحكم بمقتضى الاعراف السائدة اضافة الى ان العرف ينظر الى ان القضاء يجبر الخصوم على ابداء معلومات وبيانات في اشياء ليس من المناسب تقديمها امام القضاء, وكذا من الاعتبارات التي جعلت القانون اليمني يجيز التحكيم في المسائل الجنائية خطورة هذه المسائل وان عدالة القضاء تقوم على الجبر والإلزام الذي يورث الضغائن والاحقاد بين الخصوم بخلاف الصلح والتحكيم وان الاثر الشرعي يقضي بان الافضل اللجوء الى التحكيم وليس القضاء فقد ورد في هذا الاثر (ردوا الخصوم عن القضاء فانه يورث الضغائن) فضلا عن ان هناك من يبرر التحكيم في المسائل الجنائية بانه اسرع في اجراءاته من القضاء كما انه حسم المسائل الجنائية عن طريق التحكيم سوف يخفف من كثرة القضايا الجنائية المنظورة امام القضاء وكثرة القضايا وقلة القضاة من اهم اشكاليات القضاء والتقاضي في اليمن .

الوجه الثالث : خصوصية القانون اليمني في جوازه التحكيم في المسائل الجنائية :

ذكرنا في الوجه السابق الاسانيد التي استند اليها القانون اليمني في تقرير جواز التحكيم في المسائل الجنائية وذكرنا ان اغلبها ترجع الى الاعراف والتقاليد السائدة في اليمن, ولذلك فقد انفرد القانون اليمني في جواز التحكيم في المسائل الجنائية فهذا وضع خاص جدا, لان قوانين التحكيم في الدول الاخرى لا تجيز التحكيم في هذه المسائل حيث تتولى النيابة العامة التحقيق والتصرف في القضايا الجنائية بحكم خبرة النيابة العامة, اضافة الى ان الجرائم ليست حقا محضا للمجني عليهم حتى يقومون بالتحكيم فيها حيث ان هذه الجرائم التي تقع على المجني عليهم تمس المجتمع باسره الذي تنوب عنه النيابة العامة للدفاع عنه في مواجهة الخطورة الاجرامية التي يمثلها المجرمون ضد المجتمع باسره, ولذلك فان بعض الباحثين ينتقدون اجازة القانون اليمني التحكيم في المسائل الجنائية الذي يترتب عليه عدم مواجهة الخطورة الاجرامية التي تهدد المجتمع الذي تنوب عنه النيابة العامة .

الوجه الرابع : العقوبات التي يحكم بها المحكم في القضايا الجنائية :

مع ان القانون اليمني قد اجاز التحكيم في القضايا الجنائية الا ان العقوبات التي يقررها المحكم في هذه المسائل لا يمكن ان تكون الاعدام او السجن, وانما تكون الاعدام او السجن, وانما تكون هذه العقوبات عبارة عن الحكم بالارش او التعويض او تكاليف العلاج, علما بان الديات والارش تعتبر عقوبات حسبما صرح قانون الجرائم والعقوبات, اضافة الى ان احكام المحكمين في القضايا الجنائية لا تخلو من العقوبات العرفية واهمها (الهجر), وان كانت العقوبات التي يقررها المحكم في القضايا الجنائية تتجه اصلا الى جبر المجني عليه وتطييب نفسه الا انه لا تخلو في بعض الاحيان من منع مراعاة مصالح الجماعة مثل الهجر للساحة او لقرية او قبيلة او جماعة ما, والله اعلم .     

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

اسباب الطعن بالنقض في القانون اليمني

ماهي الحالة التي يجوز فيها الحكم بإعادة القضية الى المحكمة الابتدائية؟

إنكار المحرر العرفي الصادر عن الغير