جريمة خيانة الامانة في القانون اليمني والمصري

 

الفصل الأول

ماهية خيانة الأمانة

تمهيد وتقسيم :

إن جريمة خيانة الأمانة من الجرائم الواقعة على الأموال المنقولة المملوكة للغير مثلها مثل السرقة والنصب  وقد كانت هذه الجرائم تعتبر جريمة واحدة في القانون الروماني والقانون الفرنسي القديم ، إلى أن فصلت بينها تشريعات الثورة الفرنسية وجعلت كلاً منها جريمة مستقلة بذاتها .

وخيانة الأمانة تعني في المقام الأول الإخلال بتنفيذ التزام تعاقدي إلا أن المشرع لا يهتم بالعقاب على عدم تنفيذ كل عقود الأمانة ، وإنما يعاقب على الاعتداء غير المشروع على ملك الغير وهذا الاعتداء يعتبر من قبيل الاعتداءات القانونية على المال بمعنى أن الجاني يستفيد من هذا الاعتداء .

كما أن جريمة خيانة الأمانة من الجرائم المعقدة والدقيقة التي صار حولها الجدل والتباين في بعض التشريعات الجزائية العربية من حيث مصدرها عقود حصرها المشرع ومن حيث اشتراكها وتشابهها مع جرائم السرقة والاحتيال .

لذلك سوف نقوم بدراسة هذا الفصل في مبحثين :

المبحث الأول : تعريف خيانة الأمانة .

المبحث الثاني : الفرق بين جريمة خيانة الأمانة وجريمتي السرقة والنصب .


المبحث الأول

تعريف خيانة الأمانة

خيانة الأمانة في اللغة:

لما كانت خيانة الأمانة تتألف من لفظين مرتبطين ببعضهما ارتباطاً إضافياً فسنعرض لكل لفظ على حدة :-

خان الخون أن يؤتمن الإنسان فلا ينصح ، خانه خوناً وخيانة ، وخانة ومخانة واختانه فهو خائن وخائنة ، وخؤون وخوان .

خانه وخوّنه وخوان ، وقد خانه العهد والأمانة ، وخونه تخويناً نسبه إلى الخيانة ، ونقصه كخوّن منه ، وتعهده كتخونه فيمها والخون الضعف ، وفترة في النظر ، ومنه خائن العين للأسد ، وخائنة الأعين ما يسارق من النظر إلى ما لا يحل ، أو أن ينظر نظرة تريبة ([1]).

قال تعالى : (( تختانون أنفسكم)) أي يخون بعضكم بعضاً .

ورجل خائن وخائنة أيضاً ، والهاء للمبالغة ، مثل : علامة ونسابة ، وقوم خونة ، بفتحتين .

وخونه تخويناً نسبه إلى الخيانة ، والخوان بالكسر الذي يؤكل عليه([2]) .

أما الأمانة والأمان بمعنى واحد . وقد آمنت فأن آمن وآمنت غيره من الأمن والأمانة ، والأمن ضد الخوف ، والأمانة ضد الخيانة ، والإيمان ضد الكفر ، والإيمان بمعنى التصديق ، ضده التكذيب ، ورجل أُمنة يأمن كل أحد ، وقيل : يأمنه الناس ، ولا يخافون غائلته وأمنه أيضاً موثوق به مأمون ، وكان قياسه أمنة ، وتقول : أؤتمن فلان على ما لم يسمى فاعله ، وتقول : استأمنني فلان فآمنته ، أومنه إيماناً ، وفي الحديث : المؤذن مؤتمن ، مؤتمن القوم الذي يثقون إليه ويتخذونه أميناً حافظاً ، تقول : أؤتمن الرجل فهو مؤتمن يعني أن المؤذن أمين الناس على صلاتهم وصيامهم. وفي الحديث : المجالس أمانة ، هذا ندب إلى ترك إعادة ما يجري في المجلس من قول أو فعل ، وكأن ذلك أمانة عند من سمعه أو رآه ، والأمانة تقع على الطاعة والعبادة والوديعة والثقة والأمانة ([3]).

خيانة الأمانة في الاصطلاح القانوني :

عرفها قانون العقوبات اليمني في المادة (318) بأنها ضم الشخص إلى ملكه مالاً منقولاً مملوكاً للغير سلم إليه بأي وجه "([4]) .

أما قانون العقوبات المصري فقد تناولها في المادة (341) حيث نصت على أن " كل من اختلس أو استعمل وبدد مبالغ أو أمتعة أو بضائع أو نقوداً أو تذاكر أو كتابات أخرى مشتملة على تمسك أو مخالصة أو غير ذلك إضراراً بمالكيها أو أصحابها أو واضعي اليد عليها وكانت الأشياء المذكورة لم تسلم له إلا على وجه الوديعة أو الإجارة أو على سبيل عارية الاستعمال أو الرهن أو كانت سلمت له بصفة كونه وكيلاً بأجره أو مجاناً بقصد عرضها للبيع أو استعمالها في أمر معين لمنفعة المالك أو غيره يحكم عليه بالحبس ويجوز أن يزيد عليه غرامة لا تتجاوز مائة جنيه مصري"([5]) .

وعرفها الدكتور / عبدالناصر الزنداني بأنها " عبارة عن قيام الفاعل بخيانة الثقة التي أودعت فيه بالاعتداء على ملكية المال المنقول الذي سلم إليه على سبيل الحيازة الناقصة ، بتغيير الحيازة إلى حيازة كاملة "([6]) .

وعرفها الدكتور / محمود نجيب حسني بأنها " استيلاء شخص على منقول يحوزه بناءاً على عقد مما حدده القانون عن طريق خيانة الثقة التي أودعت فيه بمقتضى هذا العقد وذلك بتحويله صفته من حائز لحساب مالكه إلى مدع ملكيته"([7]) .

وعرفها الدكتور / حسن صادق المرصفاوي بأنها " الاستيلاء على الحيازة الكاملة لمال منقول لآخر عليه حق الملكية أو وضع اليد أضراراً به متى كان المال قد سلم إلى الجاني بوجه من وجوه الائتمان([8]) .

فالمشرع لا يعاقب على خيانة الأمانة باعتبارها انتهاكاً لقيمة أخلاقية بقدر ما يعاقب عليها باعتبارها عدواناً على حق الملكية ([9]).

ويمكن تعريفه بأنه : قيام الفاعل بتغيير حيازة الشيء المسلم إليه بأي وجه من حيازة ناقصة إلى حيازة كاملة ، بضمه إلى ملكه أو اختلاسه أو تبديده أو استعماله أو تبديله أو كتمه أو بأي صورة تدل على نية تملكه .


المبحث الثاني

الفرق بين جريمة خيانة الأمانة وجريمتي السرقة والنصب

تتفق جريمة خيانة الأمانة مع جريمتي السرقة والنصب في أنها صورة من صور الاعتداء على ملك الغير ، وفي كونها لا تقع أيضاً إلا على المال المنقول . كما أن في كل من خيانة الأمانة والنصب يكون التسليم لاحقاً على الطرق الاحتيالية وعقود الأمانة . ولكن جريمة خيانة الأمانة لها – في الواقع – طبيعتها الخاصة وتختلف بالتالي عن كل من السرقة والنصب في أن الاستيلاء على المال المنقول المملوك للغير يتم في السرقة بانتزاع حيازة المال بغير رضاء صاحبه ، سواء تم ذلك خلسة بغير علمه أم قهراً عنه ورغم إرادته ؛ أما في جريمة النصب فيتم الاستيلاء بطريق الغش والحيلة الذي يحمل المجني عليه على تسليم ماله . في حين أنه في جريمة خيانة الأمانة يتم الاستيلاء على المال بعد قيام المجني عليه بتسليمه برضائه وبوجه من وجوه الأمانة ، فيغير الجاني حيازته الناقصة للمال إلى حيازة كاملة بأن يخون الثقة التي أودعت فيه ، ويستولي على الشيء الذي في أمانته([10]) .

فمن يتسلم ورقة بنكنوت قيمتها مائة جنيه لاستبدالها بورق صغيرة إنما يتسلمها على سبيل الأمانة بقصد استبدالها بورق صغير القيمة ، فإذا اختلسها عد مرتكباً لجريمة خيانة الأمانة ، أما من يختلس النقود الصغيرة ولا يدفع ورقة البنكنوت ، أو قطعة النقود الكبيرة التي أعطيت له تلك النقود الصغيرة في مقابلها يعد مرتكباً لجريمة السرقة وهذا ما استقرت عليه محكمة النقض المصرية([11]) .

كما أن سرقة الكهرباء قد تعتبر في بعض الحالات خيانة أمانة وليست سرقة ، والفرض هنا بطبيعة الحال هو الاستيلاء على الكهرباء بغير رضا مالكها وهو مؤسسة الكهرباء فإذا كان اختلاس التيار عن طريق إجراء توصيلة كهربائية ببعض الأسلاك دون أن يكون المختلس مشتركاً بمعنى عدم وجود عداد لديه فلا جدال في أن الفعل هنا سرقة . أما إذا كان الجاني مشتركاً أي لديه عداد وقام بإجراء توصيلة كهربائية من الأسلاك الداخلة للعداد بحيث لا يسجلها العداد أو قام بالعبث بالعداد نفسه بحيث أمكنه بوسيلة أو بأخرى إبطاء دورانه حتى يعد كمية أقل من الكمية المنصرفة فعلاً ففي هذه الحالة لا يمكن التسليم بأن هذا الفعل سرقة لأن الجاني مشترك أصلاً وقد سلمت مؤسسة الكهرباء المشترك ( الجاني ) العداد مع التسليم بأن به تيار كهربي واصل فائتمنته على كمية التيار بحيث يسدد قيمة ما يستهلكه منه والتسليم هنا ينفي ركن الاختلاس في السرقة . فإذا ما اختلس تياراً زائداً كان خائناً لهذه الأمانة([12]) .


الفصل الثاني

أركان جريمة خيانة الأمانة

نصت المادة (341) من قانون العقوبات المصري على أن " كل من اختلس أو استعمل أو بدد مبالغ أو أمتعه أو بضائع أو نقوداً أو تذاكر أو كتابات أخرى مشتملة على تمسك أو مخالصة أو غير ذلك أضراراً بمالكيها أو أصحابها أو واضعي اليد عليها وكانت الأشياء المذكورة لم تسلم له إلا على وجه الوديعة أو الإجارة أو على سبيل عارية الاستعمال أو الرهن أو كانت سلمت له بصفة كونه وكيلاً بأجره أو مجاناً بقصد عرضها للبيع أو استعمالها في أمر معين لمنفعة المالك أو غيره يحكم عليه بالحبس ويجوز أن يزيد عليه غرامة لا تتجاوز مائة جنيه مصري " .

ونصت المادة (318) من قانون الجرائم والعقوبات اليمني على أنه " يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على ثلاث سنوات من ضم إلى ملكه مالاً منقولاً مملوكاً للغير سلم إليه بأي وجه " .

وفي ضوء هذه النصوص فإن جريمة خيانة الأمانة تتوافر بتوافر أربعة أركان سنتناولها في أربعة مباحث على النحو التالي :

الأول : موضوع جريمة خيانة الأمانة

الثاني : تسليم المال  .

الثالث : الركن المادي .

الرابع : الركن المعنوي .


المبحث الأول

موضوع جريمة خيانة الأمانة

موضوع خيانة الأمانة هو المال أو الشيء الذي سلمه المجني عليه إلى المتهم ليحوزه لحسابه أي أنه ينبغي أن يكون محل جريمة خيانة الأمانة مالاً منقولاً ذا طبيعة مادية ومملوك للغير لذلك يجب أن تتوافر شروط في المال لكي يعد موضوعاً لخيانة الأمانة وهذه الشروط هي :-

1. أن يكون شيئاً له صفة المال .

2. أن يكون مالاً منقولاً .

3. أن يكون مملوكاً لغير المتهم .

الشرط الأول : أن يكون المال موضوع خيانة الأمانة شيئاً له صفة المال :

عرفت المادة (112) مدني يمني المال بأنه " هو كل شيء يتمول به ويمكن الاحتفاظ به لوقت الحاجة إذا كان التعامل فيه مباحاً شرعاً وكان غير خارج عن التعامل بطبيعته " .

وعرفته المادة (81) مدني مصري بأنه " كل شيء غير خارج عن التعامل بطبيعته أو بحكم القانون يصح أن يكون محلاً للحقوق المالية " .

وهو يكون كذلك إذا كان صالحاً لأن يكون محلاً لحق الملكية ، أو إذا كان لا يخرج عن التعامل بطبيعته أو بحكم القانون . وعلى ذلك لا يعتبر مالاً في حكم هذه الجريمة السلاح غير المرخص به أو المخدرات غير المرخص بحيازتها لأنها خارجة عن التعامل بحكم القانون ولا تصلح لأن تكون محلاً لحق الملكية([13]) والتعامل فيها محرم شرعاً.

وتصلح القوى والطاقات وبصفة خاصة القوة الكهربائية موضوعاً لخيانة الأمانة وتطبيقاً لذلك فإن من أودعت لديه بطارية مشحونة بالكهرباء فاستهلك جزء منها دون أن يكون مصرحاً له بذلك يرتكب خيانة أمانة ويستوي في ذلك أن تكون للمال قيمة مادية أو أن تكون قيمته معنوية([14]) ، فكما تقع الجريمة على نقود أو بضائع أو أمتعة أو عروض أو على أوراق تتضمن إثباتاً لحقوق أو إبراء من ديون كمبيالات أو شيكات أو إيصالات أو صورة حكم تنفيذي يصح كذلك أن تقع على أوراق خاصة كخطابات عائلية أو غرامية أو مذكرات شخصية ... الخ . إلا أنه يشترط أن تكون الورقة ذات شأن فقد قضي بأنه لا يعد سرقة ولا خيانة أمانة اختلاس تقرير مرفوع من أعضاء لجان حزب سياسي إلى مدير إدارة هذه اللجان ، إذا ثبت أن التقرير ليس بورقة جدية ذات حرمة ولا يمكن اعتباره متاعاً للحزب يحرص عليه ، وأنها أنشئت لغرض خاص لا ارتباط له بالحزب إنما هي أثر خدعة وأداة غش ألبست ثوب ورقة لها شأن([15]) ولا أهمية لقيمة المال كبرت أم صغرت ، ويكفي لدى القانون أن يكون موضوع الجريمة مالاً بصرف النظر عن كون حيازته في ذاتها مشروعة أو غير مشروعة ، فمن يأتمن آخر على حفظ سلاح غير مرخص بحيازته أو مادة مخدرة ثم يخون الأمانة يقع فعله تحت طائلة القانون ، إذ ابتغى المشرع العقاب على الفعل في ذاته وما يحويه من معنى اغتيال المال وخيانة الثقة الموضوعية في المؤتمن([16]) وهذا في اعتقادي غير سديد لأن القانون عندما يعاقب على خيانة الأمانة إنما يحمي حق الملكية والأموال التي يحظر القانون التعامل فيها ولا يبيحها الشرع لا تصلح محلاً لهذا الحق .

كما أنه من التناقض البين أن يرفض القانون الاعتراف لشخص بحق الملكية على مال معين بل ويعاقبه على حيازته إياه ثم ينسب الفقهاء إلى المشرع في الوقت نفسه أنه يحمي هذه الملكية المحرمة فيعاقب من يختلس المال أو يبدده([17]) .

الشرط الثاني : أن يكون المال موضوع خيانة الأمانة منقولاً :

جريمة خيانة الأمانة إنما تقع على مال منقول له قيمة مادية أو اعتبارية بالنسبة لصاحبه وتتحقق الجريمة بكل فعل يدل على أن الأمين اعتبر المال الذي اؤتمن عليه مملوكاً له يتصرف فيه تصرف المالك – فإذا سلم الوكيل بأجر الورقة التي في عهدته للغير لبيعها والحصول على ثمنها فهذا الفعل يعتبر بمثابة تصرف المالك في ملكه تتحقق به جريمة خيانة الأمانة([18]) .

والمال المنقول في صدد جريمة خيانة الأمانة يتناول ما نصت عليه المادة (82) مدني مصري حين قالت " كل شيء مستقر بحيز ثابت فيه لا يمكن نقله منه دون تلف فهو عقار وكل ما عدا ذلك من شيء فهو منقول " ونصت المادة (115) مدني يمني على أن المال الثابت غير المنقول (العقار) هو " كل شيء له أصل ثابت لا يمكن نقله أو تحويله دون تلف فهو مستقر بحيز ثابت فيه ويلحق به كل منقول يضعه مالك المال فيه لخدمته أو لاستغلاله وكل ماعدا ذلك من المال فهو منقول "

أي كل شيء يمكن نقله من مكان لآخر حتى ولو أدى إلى تلفه فيشمل المنقول بطبيعته ، كالنقود والأمتعة والحيوانات والملابس والسندات وما إليها ، والعقار بالتخصيص مثل أدوات الزراعة والبذور وآلات المصنع وعربات نقله ، كما أنه يشمل أجزاء العقار بالاتصال إذا نزعت من أصلها الثابتة فيه ، كالشبابيك والأبواب والمرايا المثبتة في الحيطان والمواسير وأشجار الحديقة ، فيعد مبدداً من ينتزع شيئاً من ذلك من مسكن يستأجره ويبيعه([19]) .

وقد يتمثل الشيء المنقول في شكل مستندات كتابية وهنا خيانة الأمانة تقع على القيمة المالية التي يقتضيها ذلك المستند الكتابي لا المستند الكتابي ذاته ، ولهذا قضى بأنه لا خيانة أمانة في تبديد خطاب عادي([20]) .

كما أن اشتراط أن يكون المال منقولاً ليس معناه أن خيانة الأمانة غير متصورة في العقارات ولكن علته تقدير الشارع أن مالك العقار في غير حاجة إلى الحماية التي يسديها نص خيانة الأمانة باعتبار أن له تتبع ماله الذي لا يمكن إخفاؤه عنه وله كذلك إبطال التصرفات التي ترد عليه ، أما مالك المنقول فهو الذي يحتاج إلى هذه الحماية([21]) .

ويلزم في المنقول محل الجريمة أن يكون قابلاً للحيازة ، ولا يكفي فيه أن يكون فكرة في الذهن يحوزها الإنسان بعقله لا بيديه ، ولو كانت هذه الفكرة موضوع حق ملكية أدبية أو صناعية ، كاختراع مثلاً . فإذا أباح المخترع باختراعه إلى آخر وأوصاه بعدم إفشاء سر هذا الاختراع ، فباح المؤتمن بهذا السر إلى آخر بمقابل فهنا لا تتوافر جريمة خيانة الأمانة لأنها إنما تتحقق في صدد منقول في الحيازة المادية لمن اؤتمن عليه . فإذا تجسدت هذه الفكرة في محرر أو رسم فتكون محلاً لخيانة الأمانة ([22]).

الشرط الثالث : أن يكون المال مملوكاً لغير المتهم :

الأصل في خيانة الأمانة أنها لا تقع إلا على مال مملوك للغير ، لأن هدف المشرع من العقاب على جرائم الأموال عامة هو حماية حق الملكية . ولا موجب للحديث عن هذه الحماية إلا إذا كان الفعل واقعاً من غير المالك ، وهذا أمر بديهي لأن الشخص لا يعتدي على ماله ، وإنما هو يتصرف فيه حتى وإن أهلكه([23]) فإذا كان المال موضوع الجريمة ملكاً للجاني فلا تقوم الجريمة ، حتى ولو كان معتقداً أن المال مملوك للغير كما إذا كان قد تلقاه بالميراث ولكنه لا يعلم بذلك([24]) ولا يعد خائناً للأمانة من تسلم شيئاً بناءً على عقد بيع ثم أخل بالالتزامات التي يفرضها عليه عقد البيع كأن يقوم شخص بشراء سيارة ويتسلمها ثم لم يف بالتزامه بدفع ثمنها للبائع ، ذلك أن السيارة قد أصبحت ملكه بعقد البيع وتسلمه لها كان على سبيل الحيازة الكاملة وليس على سبيل الحيازة الناقصة ، غير أنه لا يلزم أن يكون المال كله غير مملوك للجاني ، فيعتبر خائناً للأمانة الشريك الذي يتولى إدارة المال المشترك فيبدد جزءاً منه([25]) .

وتطبيقاً لهذا الشرط لا يرتكب خيانة الأمانة المالك الذي يختلس ماله من حائزه ويبدده ، لأن مناط العقاب هو المساس والعبث بملكية المال الذي يقع الاعتداء عليه من غير مالكه . لكن يلاحظ أن المالك المعين حارساً على أمواله المحجوز عليها قضائياً أو إدارياً يعاقب إذا اختلسها أو بددها طبقاً لما نصت عليه المادة (319) من قانون العقوبات اليمني والمادة (342) من قانون العقوبات المصري([26]) .


المبحث الثاني

تسليم المال

تمهيد وتقسيم :

لتحقق جريمة خيانة الأمانة يجب أن يسبقها تسليم المال إلى الجاني وأن يكون هذا التسليم ناقلاً للحيازة الناقصة على المال المسلم . أما إذا كان ناقلاً للحيازة الكاملة – كما في البيع – فلا تقوم جريمة خيانة الأمانة إذا قام المسلم إليه بالتصرف فيه وقد اختلف المشرع اليمني مع المشرع المصري في كيفية التسليم حيث ذهب المشرع المصري إلى أن التسليم يجب أن يكون بناءً على عقد من عقود الأمانة الواردة في المادة (341) عقوبات مصري وهي على سبيل الحصر : الوديعة والإيجار وعارية الاستعمال والرهن والوكالة والقيام بعمل مادي ، وكل ما عداها من طرق التسليم الأخرى لا يعد فيها التصرف بالمال المسلم جريمة خيانة أمانة . أما المشرع اليمني فقد توسع في مدلول التسليم ولم يقيده أو يحصره بعقد أو وجه من وجوه الأمانة حيث نصت المادة (318) عقوبات يمني على أن يعاقب بالحبس مدة على تزيد عن ثلاث سنوات من ضم إلى ملكه مالاً منقولاً مملوكاً للغير سلم إليه بأي وجه " وقد كان المشرع اليمني موفقاً فيما ذهب إليه .

لذلك تم تقسيم هذا المبحث إلى مطلبين هما :

المطلب الأول : ماهية التسليم في خيانة الأمانة .

المطلب الثاني : عقود الأمانة .


المطلب الأول

ماهية التسليم في خيانة الأمانة

التسليم : عبارة عن عمل قانوني قوامه انعقاد إرادتين على نقل الحيازة من شخص إلى آخر ، ويشترط أن يصدر عن إرادة صحيحة فإذا كان قد تم نتيجة لتدليس أو إكراه ، فلا تقوم جريمة خيانة الأمانة ، وإنما تقوم جريمة نصب ([27]).

ويلزم أن يحصل تسليم المال إلى الجاني والتسليم هو العنصر المميز لخيانة الأمانة عن السرقة والصفة المميزة للتسليم أنه لا يعطي الجاني سوى الحيازة المؤقتة على المنقول أو حيازته إياه على ذمة مالكه وهي تتضمن الالتزام برده إلى هذا الأخير أن عاجلاً أو آجلاً ، وينبغي أن ينصب التسليم في خيانة الأمانة على نفس الشيء المختلس والذي انتقلت حيازته مؤقتاً إلى الأمين ؛ فإذا سلم إنسان سترته إلى كواء لكيها ولكنه نسي بداخلها حافظة نقوده فاختلسها الكواء أو اختلس شيئاً مما فيها فالواقعة سرقة في القانون بمقتضى المادة (318) (عقوبات مصري) لا خيانة أمانة لأن التسليم هنا انصب على السترة وحدها لا على حافظة النقود التي لم تكن موضوع عقد الأمانة ولم يشملها التسليم([28]) .

إلا أن بعضهم اعتبرها خيانة أمانة ذلك لأنها لا تعد مالاً فاقداً ما دامت داخل السترة وهذه باقية في حوزة صاحبها فالحافظة تبعاً تعد في حوزته وفرق بين نسيان الحافظة في السترة وفقدها كلية ولا يشترط أن يتم التسليم بحركة مادية ينتقل بها المال من يد حائزه إلى يد الأمين بل يكفي مجرد وجود المال في يد الشخص على وجه الأمانة فكأنه قد سلم إليه اعتباراً([29]) ويحصل التسليم عادة من المجني عليه إلى الجاني بشكل مادي أو غير ذلك ، وقد يحصل التسليم من شخص آخر غير المجني عليه نفسه ، فالوكيل الذي يحصل أقساطاً من العملاء ويختلسها يرتكب خيانة أمانة كما لو بدد الأموال التي يستلمها من موكله . كذلك تقع الجريمة إذا لم يستلم الأمين المال من المجني عليه بنفسه ، بل استلمها بواسطة تابع([30]) وكذلك الحال بالنسبة لكل أنواع التسليم الذي لا ينقل الحيازة وإنما يبقيها على ذمة صاحب الشيء كما هو الشأن في التسليم الحاصل إلى الخادم أو العامل وكان الغرض منه مجرد القيام بعمل مادي مما يدخل في نطاق عمل المستلم باعتباره خادماً أو عاملاً كتنظيف الشيء أو نقله من مكان إلى آخر ، فالاختلاس الذي يقع من العامل أو الخادم يعد سرقة وليس خيانة أمانة ولكن إذا كان المال قد سلم إلى الخادم أو العامل لا ليقوم بحراسته أو ليستخدمه في أعمال الخدمة المكلف بها ، بل ليؤدي له عملاً قانونياً ، كما لو أعطى المالك العامل منقولاً ليبيعه ، أو سلمه نقوداً ليشتري بها بعض الحاجات ، أو ليسدد بها ديناً للبقال أو الجزار ، ففي هذه الأحوال يصبح الخادم وكيلاً عن سيده في قضاء هذه المصالح وتصبح حيازته لهذه الأموال حيازة ناقصة وليست عارضة ، فإذا تصرف بها بالبيع ، فإنه يعد مرتكباً لجريمة خيانة أمانة . كذلك الحكم فيما يتعلق بالموظفين في المحلات التجارية والمصانع فليس لهم بحسب الأصل إلا الحيازة العارضة على الأشياء الموجودة ، وإنما إذا كلفوا بأعمال قانونية نيابة عن صاحب العمل فإنهم بذلك يصبح لهم صفة الوكالة وتتحول الحيازة العارضة إلى حيازة ناقصة([31]).

 

التسليم المعنوي :

ولا يشترط أن يتم التسليم بحركة مادية ينتقل بها المال من يد حائزه إلى يد الأمين ، بل يكفي مجرد وجود المال في يد الشخص على وجه الأمانة ، فكأنه قد سلم إليه اعتباراً فيكفي مثلاً أن تتغير حيازة الشخص للمال من مالك إلى مستأجر أو إلى مودع لديه([32]) ، كالبائع الذي يبيع شيئاً منقولاً ويطلب المشتري بقاء الشيء لدى البائع على سبيل الوديعة ، فإذا اختلسه المشتري أو بدده بعد ذلك ، فإنه يعد مرتكباً لجريمة خيانة أمانة([33]) .

التسليم الرمزي :

قد يكون التسليم إلى الأمين رمزياً صرفاً ، فلا يقع تسليم فعلي للأشياء موضوع عقد الأمانة ، بل تسلم له أشياء أخرى تعد رمزاً لها ، فتغني عن التسليم المادي ، ومن ذلك تسليم السندات المعطاة عن البضائع والمعهود بها إلى أمين النقل ، أو المودعة في المخازن ، فهو يقوم مقام تسليم البضائع ذاتها ، كما أن مفتاح المخزن أو الخزانة يشبه تذكرة أمين النقل من ناحية أن تسليم أي منهما يجعل حائزه صاحب حيازة رمزية لمنقول ليس في يده فعلاً ، وإنما ينبغي في جميع الأحوال أن يكون التسليم الرمزي معبراً عن تسليم فعلي ، ونقل حقيقي للحيازة المؤقتة إلى الأمين ، وإلا فلا تقوم الجريمة([34]) .


المطلب الثاني

عقود الأمانة

تمهيد وتقسيم :

ذهبت بعض التشريعات كالتشريع الفرنسي والتشريع المصري إلى اشتراط أن يكون التسليم قد تم بناءاً على عقد من عقود الأمانة التي حددتها على سبيل الحصر ولقد أظهرت الحياة العملية أن هذا المذهب الذي يحدد خيانة الأمانة على هذا النحو كثيراً ما يقصر عن تحقيق الغاية المرجوة على وجه كامل إذ يؤدي إلى انتفاء الجريمة استناداً إلى عدم حصول التسليم بناءاً على عقد من العقود المحددة حصراً ولهذا نجد كثيراً من التشريعات الحديثة كالتشريع البلجيكي الصادر في 1871م في المادة (491) والتشريع الإيطالي الصادر في 1930م في المادة (646) والتشريع اليمني الصادر في 1994م في المادة (318) تكتفي باشتراط أن يتم التسليم بأي صورة بحيث يتسع نطاق النص ليشمل حالات كثيرة كان يمكن أن يفلت المجرم من العقاب لمجرد أن التسليم لم يتم بناءاً على أحد العقود الواردة على سبيل الحصر . ([35]) كما جرى القضاء الفرنسي عن أنه لا يلزم لتطبيق مادة خيانة الأمانة أن يكون العقد القائم صحيحاً بل تطبق ولو كان العقد باطلاً سواءً كان البطلان بطلاناً نسبياً لعدم أهلية المتعاقدين ، أو لعيب من عيوب الرضا أو كان باطلاً بطلاناً مطلقاً لوجود عيب في الشكل ، أو عدم مشروعية السبب . ولذلك حكم بقيام خيانة الأمانة في حالة من أؤتمن على أموال لاستغلالها في ألعاب قمار فبددها ، وفي حالة الشريك الذي يبدد أرباح شركة غير مشروعة([36]) وعقود الأمانة الواردة على سبيل الحصر بنص المادة (341) عقوبات مصري هي : الوديعة ، الإجارة ، عارية الاستعمال ، الرهن ، الوكالة ، القيام بعمل مادي والتي يتم بمقتضاها تسليم المال المنقول إلى الجاني .

وسوف نتناول هذه العقود كل عقد على حدة في ستة فروع على النحو التالي :


الفرع الأول

عقد الوديعة

يقصد بعقد الوديعة المفهوم المشار إليه بنص المادة (718) من القانون المدني المصري وهو " العقد الذي يلتزم به شخص أن يتسلم شيئاً من آخر على أن يتولى حفظه ثم يرده إليه عيناً " والوديعة التي أشارت إليها المادة (341) عقوبات مصري لا تختلف في شيء عن الوديعة التي تكلم عليها القانون المدني([37]) .

وعرفتهما المادة (938) من القانون المدني اليمني بأنها ترك المودع مالا عند غيرة لمجرد حفظه بالتراضي وتكون إما مع تسليم المال للوديع أو التخلية بينة وبين المال والأصل في الوديعة أن تكون بغير اجر " .

ويتضح من هذين التعريفين أنه يشترط لوجود عقد الوديعة أمران :

 

الشرط الأول : أن يكون الشيء قد سلم إلى المودع لديه بقصد حفظه أي بقصد نقل حيازته المؤقتة إليه ، ويترتب على ذلك أنه إذا كان المال لم يسلم إليه لحفظه وإنما لمجرد معاينته تحت إشراف صاحبه ورده في الحال ، فلا نكون بصدد عقد وديعة ، فإذا اختلس المتهم المال عد فعله سرقة لا خيانة أمانة([38]) ويرتكب المودع لديه خيانة الأمانة إذا أضاف الشيء المودع إلى ملكه أو تصرف فيه تصرف المالك . لكن هذه الجريمة لا تقوم إذا أخل المودع لديه بشروط العقد الأخرى ، كما لو أهمل في المحافظة على الشيء حتى هلك أو استعمله أو تأخر في رده عند طلبه دون أن تكون لديه نية تملكه([39]) .

 

الشرط الثاني : أن يكون الاتفاق قد تم بين المتعاقدين على أن يرد المودع لديه الشيء ذاته سواءً أكان هذا الشيء قيمياً أو مثلياً([40]) . والتزام المودع لديه برد الشيء بعينه إلى المودع عند طلبه شرط أساسي في الوديعة ، فإذا انتفى هذا الشرط وجاز للمودع لديه أن يرد المال أو قيمته أو ما يماثله انتفى معنى الوديعة ، ولهذا قضى بأنه إذا سلم قطن إلى محلج بموجب إيصالات ذكر فيها أنه لا يجوز لحاملها طلب القطن عيناً ، ثم تصرف صاحب المحلج في القطن بدون إذن صاحبه ، فلا يعتبر ذلك تبديداً([41]) .

ولا صعوبة فيما يتعلق بالأشياء القيمية فإنها معينة بالذات ولا يقام بعضها مقام بعض ، فعلى المودع لديه أن يردها بذاتها وإلا عد خائناً للأمانة ، أما الأشياء المثلية كالغلال والنقود فأمرها يتوقف على إرادة المتعاقدين ، فقد يكون القصد أن ترد إلى المودع نفس الأشياء المودعة ولو أنها مثلية ، ومنها الأسهم والسندات غير الاسمية ، فكل ورقة لها رقم خاص يميزها عن غيرها ، فإذا تصرف المودع لديه فيها بالبيع أو الرهن أو نحوه عد فعله خيانة أمانة([42]) .

والوديعة تتم بعقد رضائي أساسه اتفاق إرادتين ، وقد تكون قانونية فيتم تسليم المال إلى المودع لديه بمقتضى نص القانون وقد تكون قضائية كالحراسة ، وهناك نوع من الوديعة الاضطرارية حيث تتم في ظروف خارجة عن إرادة الطرفين ، كما أن هناك نوع آخر من الوديعة الجارية وتحصل عن طريق إيداع الأمتعة في الفنادق والحانات والمئاوي ونحوها . ويلاحظ في هذا الصدد أنه لا أهمية لهذه الأنواع من الوديعة سواءً أكانت تعاقدية أم قضائية أم اضطرارية إذ لا تمييز بينها إلا من ناحية الإثبات([43]) .


الفرع الثاني

عقد الإجارة

عرفت المادة (558) من القانون المدني المصري عقد إجارة الأشياء بأنه " عقد يلتزم المؤجر بمقتضاه أن يمكن المستأجر من الانتفاع بشيء معين مدة معينة لقاء أجر معلوم " .

وعرفت المادة (682) من القانون المدني اليمني بأنه " عقد بين مؤجر ومستأجر يقع على منفعة معلومة بعوض معلوم لمدة محدودة أو مطلقة "

حيث يقصد بالإجارة هنا إجارة الأشياء المنقولة ، ويدخل فيها العقارات بالتخصيص ، وكذلك الأشياء الثابتة إذا نزعت عن اصلها ، كالأبواب وأشجار الحديقة ، وما إلى ذلك . فإذا بدد المستأجر شيئاً من ذلك تسلمه بمقتضى عقد إيجار عد خائناً للأمانة . ([44])

ويختلف عقد الإجارة عن عقد الوديعة في أن عقد الإجارة يمكن المستأجر من الانتفاع بالشيء، أما في عقد الوديعة فالأمر يقتصر على الحفظ . وبداهة ينصرف عقد الإيجار على المنقول لا العقار([45]) . كما أن مسئولية المودع لديه أخف من مسئولية المستأجر ويلزم المودع لديه برد العين إلى المودع بمجرد طلبه ولو لم ينقض الأجل ، أما المستأجر فلا يرد العين إلا بعد انقضاء مدة الإيجار ، فإذا لم يرد المستأجر منقولاً تسلمه بعقد إيجار في الميعاد المحدد للرد جاز أن يعد هذا تبديداً معاقباً عليه إذا كان قد اختلس الشيء وتوافرت أركان الجريمة . ويعد تبديداً أن يعدم المستأجر المنقول المؤجر عمداً ، وكذلك يعد تبديداً أن يبيع المستأجر المنقول المؤجر أو يرهنه([46]) .

ولا يطبق حكم المادة (341) عقوبات مصري والمادة (318) عقوبات يمني إلا حيث يضيف المستأجر الشيء المؤجر إلى ملكه أو يتصرف فيه تصرف المالك . أما إذا كان المستأجر قد أحدث بالشيء عيباً أو تلفاً أو امتنع عن دفع الإيجار أو تأخر في رد العين إلى المؤجر بعد انتهاء الميعاد المتفق عليه فلا يمكن عقابه بالمواد المذكورة ، وقد حكم بخيانة الأمانة على مستأجري محل مفروش اختلسوا المنقولات الموجودة في ذلك المحل ، وقد اشتبه فيما إذا كان هذا الفعل يعد سرقة أو خيانة أمانة ، ولكن الوصف الأخير هو الأصح لأن المستأجر انتقلت إليه حيازة المنقولات([47]) .

وعرضت أيضاً في مصر قضية اتهم فيها شخص بتبديد بعض موجودات عزبة مؤجرة لوالده، وطلبت النيابة العامة الحكم عليه بجريمة خيانة الأمانة على اعتبار أن المتهم بدد أشياء سلمت إليه على سبيل الإجارة . ولكن محكمة الموضوع حكمت عليه بجريمة سرقة بعد أن استلفتت الدفاع لذلك وذكرت ما يفيدان المسألة سرقة لا تبديد . غير أن محكمة النقض والإبرام خالفتها في هذا الرأي إذ قررت أن ما ورد في الحكم المطعون فيه يؤخذ منه صراحة أن العزبة التي بها تلك الأشياء مؤجرة لوالد المتهم ، وظاهر من تصرف المتهم فيها وفي موجوداتها أنه قائم مقام والده المستأجر في إدارتها . فبصفته وكيلاً للمستأجر يكون مسئولاً عن تسليم موجودات العزبة إلى مالكها عند انتهاء الإجارة وإن وجد منها شيئاً فاقداً إذ ذاك يكون مسئولاً عنه كما دفع هو بذلك([48]) .


الفرع الثالث

عارية الاستعمال

عرفت المادة (653) مدني مصري عارية الاستعمال بأنها : عقد يلتزم به المعيران يسلم المستعير شيئاً غير قابل للاستهلاك ليستعمله بلا عوض لمدة معينة أو غرض معين على أن يرده بعد الاستعمال " .

وعرفتها المادة (965) مدني يمني بأنها " إباحة المعير منفعة مملوكة له إلى مستعير لها بلا عوض مدة من الزمن أو لعمل معين " .

وتنبغي التفرقة بين عارية الاستعمال وهي ترد على المنفعة فحسب وتنقل الحيازة المؤقتة ، وعارية الاستهلاك وهي ترد على ملكية الرقبة وتنقل الحيازة التامة وهي في حقيقتها قرض ، كما لا ينبغي الخلط بين عارية الاستعمال – وهي تتضمن تسليم الشيء إلى آخر لاستعماله بعيداً عن رقابة صاحبه وتسليم الشيء إليه بقصد تمكين يده العارضة لتجربته تحت رقابة صاحبه ، ففرق بين إعارة سلعة إلى شخص لاستعمالها بدون مقابل ، وبين تسليمها إليه لتجربتها لحظات معدودة بنية بيعها إليه وقبل الاتفاق على الثمن ، فاختلاس السلعة في الحالة الأولى يعد خيانة أمانة ، أما في الحالة الثانية فيعد سرقة([49]) ويلتزم المستعير في عارية الاستعمال بحفظ الشيء ورده إلى صاحبه بذاته ، وتكون يده عليه مدة استعماله يد أمانة . فإن اختلسه أو بدده عوقب في هذه الجريمة ، خلافاً لعارية الاستهلاك ، حيث يتملك الشخص الشيء ويلتزم مدنياً برد مقابله عند حلول الأجل([50]).

وقد نصت المادة (341) عقوبات مصري على عارية الاستعمال دون عارية الاستهلاك وعارية الاستعمال يكون محلها عادة أشياء قيمية كأمتعة أو ملابس أو أدوات . ولكن من الممكن أن يكون محلها أشياء مثلية كنقود أو غلال أو حبوب ، أو أسهم وسندات وأوراق تجارية . فمثلاً يمكن أن تعار هذه الأوراق مساعدة للمستعير ليقدمها ضماناً لقرض مدة ما ، ويجب عند الرد أن يرد الأوراق بذاتها ، فإن لم يفعل عد خائناً للأمانة([51]) .


الفرع الرابع

الرهن

عرفت المادة (1096) مدني مصري الرهن الحيازي بأنه " عقد به يلتزم شخص ضماناً لدين عليه أو على غيره أن يسلم الدائن أو إلى أجنبي يعينه المتعاقدان شيئاً يرتب عليه للدائن حقاً عينياً يخوله حبس الشيء لحين استيفاء الدين وأن يتقدم الدائنين العاديين والدائنين التاليين في المرتبة في اقتضاء حقه من ثمن هذا الشيء في أي يد يكون " .

وعرفت المادة (983) مدني يمني الرهن بأنه : " عقد يقدم به المدين أو غيره بإذنه عيناً مخصوصة إلى الدائن أو عدل يختاره الطرفان لحبسها لاستيفاء مال مخصوص " .

ويشترط أن يتم تسليم المال إلى الدائن المرتهن لأنه عندئذ فقط يمكن بحث باقي أركان جريمة خيانة الأمانة ، أما قبل ذلك التسليم فإن استولى الدائن على المال بغير رضاء مدينه كان فعله سرقة وإن احتال لأخذه فقد يكون عملية جريمة نصب ، وإذا تصرف المدين في المال بعد تسليمه للدائن فالأصل أن لا يعد فعله جريمة لأن المال في ملكيته والغرض من العقاب على جرائم المال حماية ملكية الغير من الاعتداء عليها ، ولما كانت تلك النتيجة لها من الخطورة العملية مكاناً فقد تدخل المشرع المصري وأضاف إلى قانون العقوبات نص المادة (223) مكررة بموجب القانون رقم (39) لسنة 1939م والتي قررت فقرتها الأولى أنه " ويعتبر في حكم السرقة كذلك اختلاس الأشياء المنقولة الواقع ممن رهنها ضماناً لدين عليه أو على آخر "([52]) .

أما المشرع اليمني فلم يجرم ألا التصرف من قبل الراهن في العقار المرهون فقط دون المنقول ، وعاقب عليه بحسب المادة (322) عقوبات يمني بالحبس مدة لا تزيد على سنة أو الغرامة وأجاز رفعها إلى ثلاثة سنوات إذا تسبب الفاعل بعملة في إحداث جريمة جسيمة بين المتنازعين على العقار .


الفرع الخامس

الوكالة

عرفت المادة (699) مدني مصري الوكالة بأنها " عقد بمقتضاه يلتزم الوكيل بأن يقوم بعمل قانوني لحساب الموكل " .

وعرفتها المادة (905) مدني يمني بأنها " إقامة الغير مقام النفس حال الحياة في تصرف معلوم جائز شرعاً فيما يصح للأصيل حق مباشرته بنفسه " .

والوكالة عقد رضائي مالم يكن التصرف القانوني محل الوكالة شكلياً ، فيتعين أن تكون بدورها شكلية . والأصل في الوكالة أنها من عقود التبرع ، ولكن يجوز أن تكون بأجر . والمتعاقد الذي يتصور ارتكابه خيانة الأمانة هو الوكيل ومن الالتزامات التي يرتبها عقد الوكالة على عاتقه : رد ما للموكل في يده والوكيل يرتكب جريمة خيانة الأمانة إذا اعتدى على ملكية الأشياء التي سلمت له بصفته وكيلاً لكي يستعملها في مصلحة موكله ولحسابه أو كي يسلمها إلى موكله فيما بعد . أما إذا أخل بالتزام آخر غير متضمن هذا الاستيلاء فلا يرتكب خيانة أمانة([53]) .

وتميل المحاكم إلى التوسع في تحديد معنى الوكالة فتجعلها تنصرف إلى كل تكليف صادر إلى شخص بقبض مبلغ أو تحصيله لحساب شخص آخر ومن صور هذا التوسع اعتبار الشريك الذي يتولى إدارة أموال الشركاء بوجه عام وكيلاً عنهم بغض النظر عن نوع الشركة ، كما يعتبر الوارث وكيلاً عن باقي الورثة فيما يتعلق بالمنقولات الشائعة التي آلت إلى الجميع بالميراث ، وقد قضى بأن تسليم الزوجة قائمة منقولات لزوجها لتوصيلها إلى المحامي لرفع دعوى استرداد لصالحها يعد توكيلاً منها له لاستعمالها في أمر معين لمنفعتها فاختلاسها يعد خيانة أمانة([54]) .

لكن الجريمة لا تقوم في حق الوكيل إذ أخل بالتزام آخر يرتبه عقد الوكالة ، مثل عدم القيام بالعمل الذي كلف به لمصلحة موكله ، ولو كان قد تقاضى أجراً للقيام بهذا العمل ثم امتنع عن رد الأجر الذي تسلمه ، لأن الأجر سلم إليه على سبيل نقل الحيازة الكاملة وليس بصفته أميناً عليه . كما لا تقوم الجريمة في حق الوكيل الذي يأتي تصرفاً ضاراً بمصلحة موكله ، كما لو باع شيئاً لموكله بأقل من الثمن الذي حدده له أو اشترى له شيئاً بأكثر من ثمن المثل ، أو قدم لموكله كشف حساب يتضمن مبالغ انفقها تزيد على ما أنفقه فعلاً ولو اعتقد الموكل في صحة الحساب ودفع للوكيل ما طلبه . ولا يرتكب الوكيل خيانة الأمانة إذا امتنع عن رد ما تسلمه بناء على صفته استعمالاً لحق يقرره له القانون ، كما لو حبس الشيء إلى أن يرد له الموكل ما تكبده من مصروفات في سبيل تنفيذ الوكالة([55]) .


الفرع السادس

القيام بعمل مادي

ذهب جانب من الفقه المصري إلى أن هذا العقد يحوي نوع من الوكالة المادية التي تنصرف على استلام الجاني لشيء لتصنيعه أو لاستغلاله لمصلحة الغير مالك الشيء لأن عقد الاستصناع أو عقد العمل أو عقد المقاولة في طبيعتها ليست عقود أمانة بالمعنى الموضوعي لكلمة أمانة ، بل أن المشرع وضع تبديدات العمال والخدم والصناع والصبيان ضمن جرائم السرقة واعتبرها سرقات مشددة . وقد رأوا أن يدخل عقد العمل المادي أو المقاولة أو الاستصناع تحت بند عقد الوكالة([56]) .

فالعامل هو من يتسلم شيئاً للقيام بعمل مادي بشأنه لمنفعة مالك الشيء أو غيره ، كصنع هذا الشيء أو إصلاحه ، لقاء أجر أو مجاناً . فإذا اختلس أو بدد شيئاً مما سلم إليه فإنه يعد خائناً للأمانة . ومن أمثلة ذلك : النجار الذي يسلم إليه خشب لصنعه دولاباً ، والساعاتي الذي يأخذ ساعة لإصلاحها ، والترزي الذي تعطى له قطعة قماش لصنعها حلة([57]) .

ولا يدخل في في هذا الحكم متعهدوا النقل إذا سلمت إليهم أشياء لنقلها بصفتهم المذكورة فإن الاختلاس الذي يقع منهم بهذه الصفة يعد سرقة . ولا يعد كذلك مرتكباً لجريمة خيانة الأمانة العامل الذي يبدد الأجرة أو الأتعاب التي تدفع له مقدماً ليقوم بعمل ما ولكنه لا يقوم به وذلك لأن الأجرة أو الأتعاب قد سلمت إلى العامل على سبيل التمليك لا على سبيل الأمانة([58]) .


المبحث الثالث

الركن المادي

تمهيد وتقسيم :

الركن المادي لجريمة خيانة الأمانة هو الفعل الذي به يملك الجاني الشيء أو بعبارة أدق من الوجهة القانونية هو تصرف الأمين في أمر هذا الشيء كما لو كان مالكاً فهو بعد أن كان حائزاً حيازة ناقصة يسلم بالتزامه برد الشيء إلى مالكه عند انتهاء التعاقد وقد تغيرت نظرته لهذا الشيء فأصبح يعتبره ملكاً له أي أصبح ينظر إليه نظرة المالك لا نظرة الحائز المؤقت كما كان قبلاً ، وتبعاً لذلك لن يعنى بالتزامه بالرد([59]) .

ولم يحدد نص المادة (318) عقوبات يمني الأفعال التي تتم بها جريمة خيانة الأمانة واكتفى بذكر من ضم إلى ملكه مالاً منقولاً مملوكاً للغير سلم إليه بأي وجه " فما هو المقصود بالضم ؟ وهل هو الظهور على المال بمظهر المالك ، حيث أن المال يكون موجوداً بحوزة الجاني مسبقاً . فالمؤتمن على المال يخون الأمانة بضم المال إلى ممتلكاته فإذا كانت هناك نقود تركها شخص لدى آخر وديعة فإن خلط هذه النقود بنقوده تعني ضم المال المسلم إليه وديعة إلى أملاكه إذا كان بقصد التملك([60]) .

أما المادة (341) عقوبات مصري فقد حددت مصطلحات وأفعال متعددة تتم بها جريمة خيانة الأمانة حيث نصت على " أن من اختلس أو استعمل أو بدد مبالغ أو أمتعة أو بضائع ... الخ فالاختلاس والاستعمال والتبديد هي الأفعال التي تتم بها جريمة خيانة الأمانة .

ويتكون هذا الركن من عنصرين هما :

1. النشاط الإجرامي .

2. الضرر المحقق أو المحتمل وسنتناول هذين العنصرين في مطلبين .


المطلب الأول

النشاط الإجرامي

إن النشاط في جريمة خيانة الأمانة هو الاستيلاء على الحيازة الكاملة للشيء الذي سبق تسليمه على سبيل الحيازة الناقصة بناء على وجه من وجوه الأمانة .

ويتحقق هذا الاستيلاء بكل فعل قاطع الدلالة في تغيير نية الجاني من حائز حيازة ناقصة إلى حائز حيازة كاملة بأن تتجه نيته إلى ضم الشيء إلى ملكه أو الظهور عليه بمظهر المالك ([61]).

ويتمثل هذا النشاط في الأفعال التي تتم بها جريمة خيانة الأمانة وهي الضم والاختلاس والتبديد والاستعمال .

الضم والاختلاس :

فاختلاس الشيء وضمه يتم بتغيير حيازته من حيازة ناقصة إلى حيازة تامة بمعنى تغيير نية الجاني من الظهور على الشيء بمظهر الأمين إلى الظهور عليه بمظهر المالك([62]) فمن اؤتمن على كتاب فجلده ومحا اسم صاحبه وكتب عليه اسمه يعد مختلساً لأنه غير حيازته الناقصة إلى كامله وأصبحت نظرته نظرة المالك([63]) .

ويأخذ الاختلاس في الغالب شكل الامتناع عن رد الشيء عند طلبه أو عند انتهاء سبب الحيازة ، ولكن يلاحظ أن مجرد التأخير في رد الشيء ، أو الامتناع عن رده إلى حين لا يتحقق به الركن المادي في جريمة خيانة الأمانة ، مالم يكن مقروناً بانصراف نية الجاني إلى إضافة المال الذي تسلمه إلى ملكه واختلاسه لنفسه أضراراً بصاحبه . فإذا كان الثابت أن الحساب بين المتهم والمجني عليه قد صفي بما يفيد مديونية المتهم بمبلغ تعهد برده على أقساط ، فإن امتناع المتهم عن الرد يعتبر اختلاساً ، ولكن إذا تبين انتفاء هذه النية فإن ما بدر من المتهم على هذا النحو لا يعد اختلاساً([64]).

كذلك إذا تسلم تاجر جواهر مجوهرات لبيعها لحساب أصحابها بفائدة له أو ردها إليهم عيناً فادعى أنها سرقت منه ثم لما لم تنطل حيلته اضطر إلى إظهار المجوهرات فهذه الفعلة يستفاد منها أنه قد أخفى المجوهرات المسلمة إليه بنية امتلاكها إضراراً بأصحابها وبهذا يتحقق الاختلاس الذي يتطلبه القانون([65]) .

وتنتفي نية التملك إذا كان المتهم - على الرغم من أخذه الشيء الذي يعلم أنه مملوك لغيره الذي لم يرض بأخذه له يعترف بحق مالكه وينوي تمكينه من مباشرة سلطانه عليه ، ومن ثم كان عازماً على رده إليه . فتنتفي نية التملك إذا اتجهت إرادة المتهم إلى اكتساب اليد العارضة على الشيء أو اتجهت إلى اكتساب حيازته الناقصة ([66]).

وقد ذهب البعض إلى أن فعل الاختلاس الوارد في نص المادة (341) عقوبات مصري خطأ (من وجهة نظر الصياغة القانونية ) وذلك لأن المشرع سبق وأن اعتبر الاختلاس هو الركن المادي لجريمة السرقة بل جعله المميز للسرقة ، كما وأنه في ذات الوقت كلمة ( اختلاس ) تعني أخذ الشيء خلسة أو عنوة ومثالها البارز " النشل" في حين أن خيانة الأمانة تتطلب حدوث تسليم إرادي ولو أنه عارض من قبل المجني عليه([67]) .

التبديد :

أما التبديد فيقصد به كل فعل يخرج به الأمين الشيء المسلم إليه من حيازته باعتباره مالكاً له. كأن يكون موضوع عقد الأمانة نقوداً فيصرفها أو طعاماً فيأكله أو ساعة فيتصرف فيها بالبيع أو الهبة أو الرهن ويتضح من هذا التحديد أن التبديد يتضمن الاختلاس ويزيد عليه([68]) لأنه يتطلب أولاً تحويل الشيء عن وجهته وإضافته إلى ملك حائزه ، أي تغيير النية ، وهو ما يعد اختلاساً في نطاق التبديد ، ثم يتطلب ثانياً التصرف في هذا الشيء بالبيع أو الهبة أو المقايضة أو الاستهلاك
أو الإنفاق إن كان نقوداً ، وفي الجملة كل تصرف يخرج الشيء من حيازة الأمين خروجاً تاماً يتعذر معه رده إلى صاحبه ، وبالتالي لا يعد تبديداً مجرد تسليم الأمين الشيء المؤتمن عليه إلى غيره مالم يثبت أنه قصد من وراء ذلك التصرف فيه
([69]) .

أما الفقه والقضاء فيسلم بأن التبديد لا يعدو أن يكون صورة خاصة من صور الاختلاس لأن التصرف في الشيء تصرف المالك يفيد سبق إضافته إلى ملك المتصرف ، وإنما يزيد التبديد عن الاختلاس أنه ينطوي على خروج المال نهائياً من حيازة الأمين ، وقد أكدت محكمة النقض هذه التفرقة في أحكامها فقضت بأن التبديد لا يتحقق إلا باستهلاك الأمانة أو بالتصرف فيها للغير أو التخلي له عن حيازتها ، أما اختلاس الأمانة فإنه يتحقق بكل ما دل به الأمين على اعتبار الأمانة مملوكة له يتصرف فيها تصرف المالك ، فهو يقع متى غير الحائز حيازته الناقصة إلى حيازة كاملة بنية التملك ([70]).

الاستعمال :

يراد بالاستعمال استخدام شيء سلم لغرض معين في غرض آخر غير المتفق عليه . وقد اختلف في أمر الاستعمال فيرى الفقه أنه إذا أريد به الاستعمال المقترن بنية التملك فلا جديد إذا لا يخرج في هذه الحالة عن أن يكون اختلاساً وإذا أريد به الاستعمال المجرد عن نية التملك لا يمكن أن يؤاخذ به الفاعل على خيانة الأمانة فهذه الجريمة كالسرقة والنصب لا يؤاخذ على الاختلاس فيها إلا إذا اصطحب بنية التملك([71]).

وخلص البعض بعد التأمل إلى وجوب إغفال هذا الفعل وإخراجه من نطاق خيانة الأمانة لأن لفظه زيد خطأ ويتزعم الاستاذ / أحمد أمين هذا الاتجاه([72]).

كما أن الاستعمال يعني كصورة للفعل الذي تقوم به خيانة الأمانة الفعل الذي يستخدم به المتهم الشيء استخداماً لا يجوز أن يصدر إلا من المالك ، ويكشف في صورة قاطعة عن تغير نيته ، إذ قد صار ينظر إليه نظرته إلى شيء يملكه ، أما الفعل الذي يستخدم به الشيء استخداماً يجوز أن يصدر عن المالك أو عن غيره ولا يكشف بالتالي عن نية تملك الشيء فلا تقوم به خيانة الأمانة ومن تطبيقات الاستعمال الذي تقوم به خيانة الأمانة أن يسلم المؤلف ناشراً أصول كتاب كي يطبع منه عدداً محدداً من النسخ فيطبع عدداً أكبر ذلك أنه قد استعمل الأصول استعمالاً لا يجوز أن يصدر عن غير المالك ويكشف عن أنه أصبح ينظر إليها نظرة المالك إلى شيء يملكه([73]) .


المطلب الثاني

الضرر المحقق أو المحتمل

وقد نص عليه قانون العقوبات المصري حيث ذكرت المادة (341) على أنه يجب أن يقع اختلاس الأشياء موضوع الأمانة أو استعمالها أو تبديدها " أضراراً بمالكيها أو أصحابها أو واضعي اليد عليها " أما القانون اليمني فلم يتعرض للضرر في جريمة خيانة الأمانة فلا ندري هل لأنه يعتبر الضرر مفترض في أي جريمة ؟ أم لأنه اعتبر مجرد حصول واقعة الضم لمال الغير كافياً لقيام جريمة خيانة الأمانة ، وإن لم يترتب ضرر على المجني عليه من واقعة الضم .

ويقصد بالضرر بصفة عامة المساس بحق أو مصلحة مشروعة لشخص مساساً يترتب عليه جعل مركزه أسوأ مما كان قبل ذلك لأنه انتقص من المزايا أو السلطات التي يخولها ذلك الحق ، أو تلك المصلحة لصاحبه ، ويستوي في ذلك أن يكون ذلك الحق أو تلك المصلحة متعلقاً بسلامة جسم الإنسان أو بعاطفته أو بماله أو بحريته أو بشرفه واعتباره أو بغير ذلك ، ولقد جرت العادة على إطلاق مصطلح الضرر الجسدي على الاعتداء على الجسم بينما يعبر عن الاعتداء على المال بالضرر المادي([74]) .

وتقدير الضرر يكون بالنظر إلى المجني عليه بمعنى أنه لا يشترط أن يحصل الجاني على فائدة له أو لغيره ، فمثلاً إتلاف المال المؤتمن عليه يتوافر به ركن الضرر وإن انعدمت الفائدة التي تعود على الفاعل ، ويقصد القانون حماية كل فرد له حق أياً كان على المال كالمنتفع والمستعير والمستأجر وليس بشرط أن يكون مالك المال أو صاحبه معروفاً وقت التبديد ، فمثلاً إن جمعت أموال تبرعات لمنكوبي حادث معين فإن هؤلاء المنكوبين وإن لم تحصر شخصياتهم بعد ، إلا أنهم في الواقع من الأمر محددين ، وقد تملكوا المال الذي جمع باسمهم ملكية شائعة حتى يقسم بينهم وفق قوائم التوزيع([75]) .

ويذهب جمهور الفقه وأحكام القضاء على أن الضرر عنصر من عناصر خيانة الأمانة لا تقوم بدونه وذلك استناداً إلى نص المادة (341) عقوبات مصري ومقتضاه أن القاضي يلتزم بتحري عنصر الضرر قبل الحكم بالإدانة في خيانة الأمانة وأن عليه أن يرد على دفاع المتهم إذا أنكر وقوع الضرر ، وإلا كان حكمه مشوباً بالقصور . على أن في الفقه رأياً يخالف مذهب الجمهور ، وهذا الرأي لا يجحد الضرر من أساسه ولا يجرد خيانة الأمانة منه تماماً ولكنه ينكر اعتبار الضرر شرطاً مستقلاً يلتزم القاضي بتحريه ، وحجته أن الضرر من طبيعة الجريمة لأن الفعل المكون لها ينطوي حتماً عليه ، فليس من المتصور أن يمارس شخص على مال غيره سلطات المالك دون أن يشتمل هذا الفعل على ضرر بالغير ، وعلى هذا النحو ينتهي الرأي المخالف إلى أن ما اشترطه القانون في هذا الشأن ليس إلا تحصيلاً لحاصل وإثباتاً لمفهوم([76]) .

وهذا ما ذهب إليه قانون العقوبات اليمني الذي لم يعتبر الضرر شرطاً أساسياً لقيام جريمة خيانة الأمانة إما لأن الضرر هو أساس التجريم والعقاب في كل أنواع الجرائم أو لأن توافر واقعة الضم تكفي لقيام الجريمة وإن لم يترتب عليها ضرر .

والضرر الذي نص عليه قانون العقوبات المصري لا يشترط تحققه فعلاً ، فالمتفق عليه أنه يكفي أن يكون الضرر محتملاً ، ولا يمنع رد الأشياء المختلسة من قيام الجريمة ، فالضرر كان محتملاً . كذلك لا يشترط أن يكون الضرر مادياً بل تقع الجريمة ولو كان الضرر أدبياً ، كما هو الحال مثلاً في تبديد أوراق شخصية أو أشياء ليس لها إلا قيمة تذكارية . فإذا لم يكن هناك ضرر مطلقاً لا محقق ولا محتمل فلا جريمة([77]) .

أي أن الضرر في قانون العقوبات المصري يجب أن يكون ركناً في جريمة خيانة الأمانة ولكن يبدو أن القضاء الجنائي لا يتشدد في هذا الركن رغم صريح نص القانون الجنائي، وهذا ما جعل البعض لا يعتبر الضرر ركناً في جريمة خيانة الأمانة([78]) .

 


المبحث الرابع

الركن المعنوي (القصد الجنائي)

 

خيانة الأمانة جريمة عمدية فلابد فيها من قصد جنائي ، فالتبديد والاختلاس أو بعبارة عامة انتهاك الأمين لحق الملكية لا يعاقب عليه إلا إذا حصل عمدا([79]) أي اتجاه الإرادة نحو الفعل المحرم الذي يعاقب عليه القانون ولا يكفي القصد الجنائي العام بل يجب أن تتوافر في جريمة خيانة الأمانة نية خاصة هي نية التملك ولقد استقر قضاء محكمة النقض على أن القصد الجنائي في جريمة خيانة الأمانة لا يتحقق بمجرد تصرف المتهم في الشيء المسلم إليه أو خلطه بما له وإنما يتطلب فوق هذا ثبوت نية تملكه إياه وحرمان صاحبه منه([80]) .

وعلى الرغم من أن الشارع لم يصرح بتطلب القصد فهو مستفاد من طبيعة هذه الجريمة وكونها اعتداء على الملكية وإخلالاً بثقة موضوعه في المتهم وتقاربها في الأحكام مع السرقة والنصب وهما عمديتان بطبيعتهما وكون الأفعال التي تفترضها أي الاختلاس والتبديد والاستعمال لا تتصور بغير علم بماهيتها وإرادة متجهة إليها . وأهمية تطلب القصد في خيانة الأمانة أنها لا تقوم عند انتفائه ولو توافر لدى المتهم خطأ جسيم ، كما لو أهمل الوكيل في القيام بالعمل المكلف به أو صدر عنه في تنفيذه خطأ فاحش فضاع على الموكل ماله([81]) .

أن تحديد القصد الجنائي في جريمة خيانة الأمانة من المسائل الدقيقة ولاسيما إذا كان موضوع الأمانة أشياء مثلية وخاصة النقود([82]) ، حيث أن الالتزام الوحيد الذي يقع على عاتق الأمين هو أن يقدم النقود التي استلمها إلى صاحبها في الوقت المحدد . أما قبل ذلك فكان له الحق أن يستعملها بشرط تعويضها بمبلغ مساو ، غير أن المتهم يزعم ، عموماً أنه ما كان له قط القصد بتملك المبلغ وأنه بناء على ظروف طارئه خارجه عن إرادته لم يستطيع تعويض النقود المطلوبة ، وبالتالي يعتبر الركن المعنوي منتقضاً([83]) .

أما الأشياء المعينة فلا صعوبة تذكر في أمرها إذ مجرد تصرف الأمين فيها تصرف المالك مع علمه بأنه غير مالك لا يتفق مع حسن النية فهو يحمل في طياته القصد الجنائي([84]) .

 

عناصر القصد الجنائي :

ليس للقصد الجنائي في خيانة الأمانة ما يميزه عن القصد الجنائي في سائر الجرائم العمدية ، فهو فيها كما في غيرها ينحصر في علم الجاني وقت ارتكاب الفعل بكل الأركان والعناصر اللازمة لوقوع الجريمة ، ومعنى ذلك أنه ينبغي أن يكون الجاني في تلك اللحظة عالماً بصفة المال ، وبأنه ملك لغيره ، وأنه موجود في يده على سبيل الأمانة وأن من شأن فعله أضاعه المال على ربه ، وإلحاق الضرر به وبغيره([85]) وبهذا يفترض القصد العام علماً وإراده منصرفين إلى عناصر الجريمة ولكن القصد العام وحده لا يكفي لقيام جريمة خيانة الأمانة بل يجب أن يتوافر بجانبه قصد خاص وهو نية التملك . وسندرس هذه العناصر في ثلاثة مطالب على النحو التالي :

المطلب الأول: العلم   

المطلب الثاني : الإرادة  

المطلب الثالث : القصد الخاص ( نية التملك )


المطلب الأول

العلم

يجب على المتهم أن يعلم أن الشيء مملوك لغيره ، وأنه في حيازته الناقصة ، وأنه ملتزم برده عيناً أو رد مثله . أما إذا كان يعتقد أنه يحوزه حيازة كاملة وأن له عليه حقوقاً أصلية ، وأنه غير ملتزم بتقديم حساب إلى غيره عن حيازته له فإن القصد لا يتوافر ، كما يجب أن يعلم بماهية فعله وأثره المحتمل على ملكية المجني عليه وحيازته ، فيعلم بما ينطوي عليه من تغيير لنوع الحيازة وتحويل لها من ناقصة إلى كاملة ، ويجب أن يتوقع المتهم الضرر الحال أو المحتمل الذي يترتب على فعله([86]) .

وعلم الجاني بصفة المال مفترض في جانبه لأنه علم بفكرة قانونية جنائية والقاعدة أنه لا يعذر أحد بجهله بالقواعد الجنائية . أما العلم بملكية الغير وبأنه سلم إليه على وجه الأمانة وعلى سبيل الحيازة الناقصة فيقبل الاعتذار بالجهل بشأنها مما ينفي القصد الجنائي إذا ثبت فعلاً . فإذا كان الشخص يعتقد أن ما يستولي عليه إنما هو ملكه آل إليه بطريق الميراث أو الوصية بعد استلامه على سبيل الأمانة فلا يتوافر في حقه القصد الجنائي ولا تقوم جريمة إساءة الائتمان ، ولا يتوافر القصد الجنائي أيضاً إذا اتجهت إراته إلى استعمال الشيء ولو في غير الغرض الذي من أجله سلم إليه ، وإذا اتجهت إرادته إلى حبسه فقط حتى يتقاضى أجره أو حتى تتم تسوية الحساب بينه وبين المالك([87]).

كما ينبغي أن يتعمد الجاني التبديد أو الاختلاس ، أما إذا هلك منه المال بقوة قاهرة أو حتى عن إهمال أو سوء استعمال ، لا عن سوء قصد ، فلا تقوم الجريمة . وإذا اعتقد لأسباب جدية بانتفاء الضرر فلا تقوم أيضاً ، كأن ينفق الوكيل مبلغاً من المال سلم إليه بمقتضى الوكالة اعتماداً على ثروته الخاصة ، واعتقاداً منه بأنه سيتمكن من رد المبلغ إلى الأصيل في الوقت المحدد ، وذلك حتى ولو عجز بعدئذ عن الرد نتيجة كارثة مالية حاقت به مثل حريق أو إفلاس([88]) .


المطلب الثاني

الإرادة

يجب أن تتجه إرادة الجاني إلى السلوك الإجرامي المتمثل في اختلاس أو استعمال أو تبديد الشيء موضوع السلوك ، وإلى ما يترتب عليه من ضرر محقق أو محتمل ، وإلى تغيير الحيازة من ناقصة إلى كامله ، ويجب على المحكمة أن تستظهر تلك الإرادة وإلا كان حكمها معيباً . وتطبيقاً لذلك قضى بأنه متى كان الحكم قد أدان المتهم بجريمة التبديد دون أن يثبت قيام القصد الجنائي لديه وهو انصراف نيته إلى إضافة المال الذي تسلمه إلى ملكه واختلاسه لنفسه أضراراً بمالكه فإنه يكون قاصر البيان([89]) .

كما يجب أن يقصد الأمين أن يتصرف في الشيء كما لو كان مالكاً . فالفعل المادي الذي أتاه الأمين لا يكون اختلاساً أو تبديداً جنائياً إلا إذا انصرفت إلى ذلك نية الأمين . فمجرد تأخير الوكيل في تسليم المال الذي حصله ، وإهمال الأمين في القيام بواجبه ، وتجاوز المستأجر حدود الاستعمال المتفق عليه وإطالة المدة بدون رضا المؤجر وامتناع المودع لديه عن رد الوديعة حتى يحصل على ما صرفه . كل هذه الأفعال وما إليها مما لا يقصد منه الأمين تغيير صفته كحائز حيازة ناقصة لا تكون جريمة خيانة الأمانة لانعدام قصد تغيير الحيازة وبالتالي انعدام القصد الجنائي ، ولا يترتب عليها إلا المسئولية المدنية متى كان لها مقتض([90]) .

وكذا إذا عيب الشيء أو تلف بفعل صدر عن إهمال وعدم احتياط أو كان المتهم قد استعمل الشيء في صورة منافية لتخصيصه أو للغرض المتفق عليه ، فهلك دون أن تتجه إرادته إلى هلاكه أو يقبل ذلك ، فإن القصد لا يتوافر لديه . ومن باب أولى ، فإن القصد لا يتوفر لدى المتهم إذا سرق الشيء من حوزته ولو بإهماله ، أو صدر قرار إداري بالاستيلاء عليه وانتقلت حيازته وملكيته إلى الدولة ([91]).


المطلب الثالث

القصد الخاص

القصد الخاص في خيانة الأمانة يقوم بتوافر نية تملك الشيء موضوع الأمانة . فمجرد امتناع المتهم عن رد الشيء المسلم إليه على سبيل الأمانة لا يكفي لتحقق القصد الجنائي ، وإنما يلزم فوق ذلك ثبوت نية تملكه للشيء وحرمان صاحبه منه ، فإذا تأخر المؤتمن في رد الشيء دن أن ينكر ملكية صاحبه له أو يدعي أنه هو مالكه لا يتوافر القصد لديه ، وإن أمكن مسائلته على أساس المسئولية العقدية عن إخلاله بالالتزام بالرد الناشئ عن عقد الأمانة ([92]).

فالعلم وحده لا يكفي لتكوين القصد الجنائي في جريمة خيانة الأمانة بل يتعين أن يتوافر إلى جانب القصد الجنائي العام نية خاصة أو قصداً خاصاً وهي نية الغش أو نية الظهور على الشيء بمظهر المالك إضراراً بالمجني عليه([93]) .

فيجب أن يقصد الأمين من تصرفه تغيير الحيازة من ناقصة إلى كاملة مع علمه بأن هذا التصرف يترتب عليه ضرر محقق أو محتمل بصاحب الشيء المسلم على سبيل الأمانة ، وانتفاء القصد الجنائي على هذا النحو يعني الإفلات كلية من المسئولية الجنائية وإن كان ذلك لا يعفي الجاني من المسئولية المدنية إذا توافر في ملكه معنى الخطأ([94]) .

ويعلن عن هذه النية من خلال الأفعال التي يقوم بها سواءً أكانت على صورة التبديل للشيء أو كتم الشيء أو التصرف به تصرف المالك ببيعه أو استهلاكه أو التبرع به ، ونية تملك الشيء في الأشياء المثلية تتضح من خلال عزم الجاني وتصميمه على حرمان صاحبها منها بطريقة مستمرة ودائمة ونهائية ، وبالنسبة للأشياء القيمية فيتوافر القصد الخاص لدى الجاني من خلال التصرف والسلوك الذي يقوم به بنية تملكه للشيء وإدخاله في ماله الخاص([95]) .

وقد تنهض الظروف المادية قرينة قاطعة بحصول التبديد أو الاختلاس مع سوء القصد فالمحصل الذي يحصل مبلغاً كبيراً ويختفي به هارباً تنطق الظروف باختلاسه دون الحاجة إلى مطالبته أو تكليفه بالرد ، وكذلك الحال بالنسبة للوكيل الذي يتلاعب في دفاتر الحساب ويزور فيها إخفاءً لاختلاسه ، ومثله المحصل الذي يدعي كذباً سرقة ما حصله من النقود ثم يتبين عدم صحة أقواله وتلفيقه ، وقد يحدث أن يدفع المتهم بوجود حساب بينه وبين المجني عليه ومجرد وجود حساب بينهما لا يكفي بذاته لانعدام القصد الجنائي ، وقد تكون نتيجة الحساب براءة ذمة المتهم بحكم المقاصة إذا توافرت شروطها([96]) .

فإذا أدان الحكم متهماً لأنه تسلم من المجني عليه أنبوبة بوتاجاز لتوصيلها إلى أحد المصانع فلم يفعل وأغفل دفاع المتهم بأنه أصيب يوم الحادث بكسر في ظهره أثناء تحميله السيارة وأنه دخل المستشفى ، فإنه يكون مشوباً بالقصور مما يعيبه ويستوجب نقضه([97]) .

إلا أن الدكتور / عوض محمد ذهب إلى كفاية القصد العام في جريمة خيانة الأمانة مخالفاً في ذلك عامة الفقهاء في مصر والذين يرون أن خيانة الأمانة جريمة ذات قصد خاص وهو نية التملك، وقال – منتقداً إياهم – ( إن هذا الرأي تعوزه الدقة ، فالتنظيم القانوني لخيانة الأمانة لا يقتضي وجود نية التملك لدى الجاني في كافة الأحوال ، وإنما تلزم هذه النية فحسب حين تقع الجريمة بالاختلاس ، أما حين تقع بالتبديد أو بالاستعمال فإن تلك النية لا يكون لها وجود ، ذلك أن التبديد إهلاك للمال ، والاستعمال المؤثم استنزاف لقيمته وليس من اللازم لارتكاب هذا الفعل أو ذاك أن تقوم لدى الأمين نية التملك .

ومن هذه الزاوية تبدو نية التملك – منظوراً إليها على أنها قصد خاص – قاصرة على الإحاطة بكل صور خيانة الأمانة ، ويؤدي الإصرار عليها إلى إفلات الجناة من العقاب في حالتي التبديد والاستعمال ، لأن من اليسير عليهم في الحالين نفي وجود نية التملك لديهم([98]) .

وأخيراً فإن البعض يذهب – بحق – إلى أن نية التملك وإن كانت لازمة في جريمة خيانة الأمانة إلا أن ذلك باعتبارها العنصر النفسي في السلوك ، أي أنها تتصل بالركن المادي للجريمة ولا يتوافر بهذا القصد الخاص ، ولذلك قد تتوافر نية التملك ولا يتوافر القصد الجنائي كما هو الشأن في حالة المقاصة أو تصفية الحساب([99]) .

ونحن نميل للرأي السابق الذي يرى أن جريمة خيانة الأمانة لا تقوم إلا إذا توافر فيها قصد خاص وهو نية التملك ، فالضم والاستعمال والاختلاس المجرد عن نية التملك لا تقوم به جريمة خيانة الأمانة ، فقد يخلط الوكيل أموال موكله بأمواله الخاصة ، التي تفوقها ، ثم يودعها جميعاً باسمه في مصرف وكان ينوي أن يسحب أموال الموكل بمجرد طلبه لها ، ويردها إليه ولم يتوقع احتمال إفلاس المصرف ، ولكن هذا المصرف أفلس ، فلم يستطع إبراء ذمته لدى مطالبته بذلك ، فإن القصد لا يتوافر لديه .


الفصل الثالث

تمام الجريمة والعقاب عليها

تمهيد وتقسيم :

تعتبر جريمة خيانة الأمانة من الجرائم التي لا يتصور فيها الشروع .

فإذا ثبت تمام الجريمة فقد نشأت المسئولية واستحقت العقوبة ، فلا يجدي المتهم إظهار استعداده لرد المال الذي كان مؤتمناً عليه([100]) .

وقد قرر قانون العقوبات المصري واليمني عقوبة لجريمة خيانة الأمانة وهي الحبس ويجوز أن تزاد عليه غرامة كما في القانون المصري ، كما أعطى القانون اليمني للقاضي سلطة تقديرية في الحكم بعقوبة تكميلية تتناسب مع العقوبة الأصلية المنصوص عليها في المواد (100- 103) من قانون الجرائم والعقوبات ، وقد تم تقسيم هذا الفصل إلى ثلاثة مباحث :

المبحث الأول : تمام الجريمة .

المبحث الثاني : العقوبة الأصلية .

المبحث الثالث : العقوبة التكميلية.


المبحث الأول

تمام الجريمة

إن جريمة خيانة الأمانة تتم متى أظهر الأمين نيته في تملك الشيء ولما كان اتجاه النية إلى التملك أمراً لا يحتمل التجزئة فلا يتصور الشروع في هذه الجريمة ولا يقال بأن ضبط الجاني أثناء التصرف في الشيء المسلم إليه على سبيل الأمانة يعتبر مشروعاً عن نية الجاني في تملك الشيء ، ولما كان مجرد الاحتفاظ بالشيء مع نية تملكه تقع به جريمة خيانة الأمانة كاملة في صورة الاختلاس ، فإنه لا يتصور الشروع في هذه الجريمة فهي إما أن تقع كاملة أو لا تقع على الإطلاق([101]) .

فإذا كان الأمر كذلك ، وكان مجرد تغيير النية أمر تتم به الجريمة ، فإن الشروع يكون غير متصور فيها ، وقد استقر القضاء المصري على هذا الرأي منذ زمن بعيد ، فذهب إلى أنه لا يشترط أن يكون الجاني قد تصرف في الشيء الذي اؤتمن عليه تصرفاً نهائياً لإمكان القول بتمام الجريمة ، بل يكفي أن يكون قد باعه بالفعل ولم يسلمه إلى المشتري بعد ، أو حتى عرضه للبيع مجرد عرض ، ولم تلق المحكمة بالاً إلى ما قيل من أن مثل هذه الأفعال تعد شروعاً غير معاقب عليه ، كما قضى بأنه إذا سلم الأمين الأمانة إلى الغير لبيعها لكان ذلك منه اختلاساً تقوم به الجريمة التامة لثبوت التغيير الطارئ على نية الحيازة([102]) .

ولما كان الشروع هو البدء بتنفيذ الركن المادي ، أي البدء بتبديد المال والتفريط به واستعماله ، ولما كان هذا المال موجوداً ابتداء لدى المتهم الأمر الذي لا يتطلب منه سلب المال أو انتزاع حيازته وإنما مجرد تغيير وجهته لذلك يصبح من الصعب التكهن باللحظة التي بدأ فيها المتهم يغير صفة حيازته لهذا المال الذي استلمه على سبيل الأمانة ، ولذلك يقول الشراح أن الشروع غير متصور في خيانة الأمانة ([103]).

ومن المسلم به أن جريمة خيانة الأمانة جريمة وقتية فلا هي مستمرة ولا هي جريمة متتابعة ، فهي تتم وتنتهي في فترة واحدة بمجرد تمام الركن المادي لها متى توافرت باقي أركانها ، ولا أهمية لاستمرار حبس الشيء بنية التملك فهو تالٍ لوقوع الجريمة([104]) .


المبحث الثاني

العقوبة الأصلية

إذا تمت الجريمة بأركانها التي يتطلبها القانون حق العقاب ، ولا يمنع من ذلك رد الجاني للمال المختلس ، لأن هذا يعتبر من جانبه إصلاحاً لآثار الجريمة بعد وقوعها([105]) .

كما أن مجرد الانتفاع بالمال يخل بالثقة التي منحها إياه المالك ولو أعاد المال لأن جريمة خيانة الأمانة تقع على الثقة أولاً قبل وقوعها على المال([106]) ، كما لا يؤثر في ذلك الباعث على الجريمة ، وإن كان كل منهما قد يؤثر في قدر العقوبة([107]) .

إن خيانة الأمانة في القانون المصري جنحة عقابها الحبس الذي لا يتجاوز ثلاث سنوات ويجوز أن تزداد عليه غرامة لا تتجاوز مائة جنيه ( مادة 341) عقوبات ولا عقاب على الشروع فيها لأنه غير متصور ، فإذا قضت المحكمة بالغرامة فقط كان حكمها مخالفاً للقانون ، وتطبيقاً لذلك حكمت محكمة النقض بأن العقوبة المقررة بالمادة (341) من قانون العقوبات هي الحبس وجوباً ويجوز أن يزاد عليها غرامة لا تتجاوز مائة جنيه ، ولما كان الحكم المطعون فيه قد عدل عقوبة الحبس المقضي بها في الحكم الابتدائي إلى عقوبة الغرامة فإنه يكون قد أخطأ في تطبيق القانون([108]).

أما عقوبة خيانة الأمانة في القانون اليمني فقد حددها المشرع فجعلها الحبس الذي لا يزيد على ثلاث سنوات وذلك في المادة (318) عقوبات يمني ، والملاحظ أن المشرع وضع حداً أقصى للعقوبة دون أن يحدد حد أدنى لها سوى ما يخضع للقواعد العامة من عدم جواز النزول بالحبس عن فترة أربع وعشرين ساعة . ومعنى ذلك أنه ترك للقاضي سلطة واسعة في تقدير العقوبة وفقاً لظروف كل حالة على حدة([109]) .

وثمة اعتبارات يتعين على القاضي أن يراعيها في تحديد هذه العقوبة فعليه أن يضع في اعتباره مدى توثق العلاقة بين المتهم والمجني عليه ، ومقدار ما أودعه فيه من ثقة ، ومدى ما ينطوي عليه فعله من إخلال بهذه الثقة ، فكلما ازدادت العلاقة توثقاً ازداد ما ينطوي عليه الفعل من إخلال ، وكان ذلك اعتباراً يميل بالعقوبة إلى التشديد .

وعلى سبيل المثال فالوكيل العام يستحق – عند خيانة الأمانة – عقوبة أشد مما يستحقه الوكيل الخاص . ويجدر بالقاضي أن يميل بالعقاب إلى التشديد إذا بذل المتهم عقب فعله جهوداً لإخفاء جريمته ووضع بذلك العقبات أمام المجني عليه لاسترداد حقوقه قبله ، كما لو هرب بما حصله من مال لحسابه ، أو أدخل التشويه على دفاتره كي لا تكتشف خيانته([110]) .

إلا أن كلاً من المشرع اليمني والمصري لم يحددا أي عقوبة تكميلية في جريمة خيانة الأمانة كوضع المتهم تحت مراقبة البوليس أو حرمانه من تولي بعض الوظائف ، كما في شأن العائد الذي يحكم عليه في سرقة أو نصب بالنسبة للقانون المصري .

وتعتبر جريمة خيانة الأمانة من جرائم الشكوى التي يتوقف تحريك الدعوى الجنائية فيها أو رفعها على شكوى تقدم من المجني عليه([111]) إذا ربطت بين المتهم والمجني عليه صلة الأبوة أو البنوة أو الزوجية([112]) .

 

 

 


المبحث الثالث

العقوبة التكميلية

تعرف العقوبة التكميلية بأنها : عقوبة تكمل العقوبة الأصلية وتتوقف على نطق القاضي بها ، ولا يجوز تنفيذها على المحكوم عليه إذا لم ينص عليها الحكم.

والعقوبات التكميلية كما بينتها المواد (100-103) من قانون الجرائم والعقوبات على خمسة أنواع ([113]):

أولاً : الحرمان من كل أو بعض الحقوق والمزايا وهي كما يلي :

1-        الحرمان من تولي الوظائف والخدمات العامة أو الوظائف والخدمات النيابية والمهنية .

2-        الحرمان من أن يكون ناخباً أو منتخباً في المجالس العامة .

3-        الحرمان من أن يكون عضواً في مجلس إدارة شركة أو مديراً لها.

4-        الحرمان من أن يكون صاحب التزام أو امتياز .

5-        الحرمان من أن يكون وصياً أو قيماً أو وكيلاً .

6-        الحرمان من أن يكون خبيراً أو شاهداً في عقد أو تصرف .

7-        الحرمان من أن يكون مديراً أو ناشراً أو محرراً لإحدى الصحف .

8-        الحرمان من تولي إدارة مدرسة أو معهد علمي أو ممارسة أي نشاط علمي .

9-        الحرمان من حمل أوسمة وطنية أو أجنبية .

10-   الحرمان من حمل السلاح .

11-   الحرمان من مزاولة المهنة .

12-   الحرمان من استعمال أو استغلال المحل ( إغلاق المحل ).

 

ثانياً : الوضع تحت مراقبة الشرطة :

ثالثاً : الحرمان من استمرار إقامة الأجنبي في البلاد.

رابعاً : تقديم تعهد بعدم الإخلال بالأمن والتزام حسن السيرة .

خامساً : المصادرة .

وهذه العقوبات التكميلية هي عقوبات جوازية للقاضي سلطة تقديرية في الحكم بها بما يتناسب مع العقوبة الأصلية ، فمثلاً أن يحكم بصدد الجريمة موضوع بحثنا وهي جريمة خيانة الأمانة تبعاً للحكم بالعقوبة الأصلية بالحرمان من بعض الحقوق والمزايا كالحرمان من أن يكون وصياً أو قيماً أو وكيلاً إذا كانت خيانة الأمانة قد انصبت على ما تحت يده من مال للمجني عليه بناءً على الوصاية أو الوكالة أو القوامة.

 



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

اسباب الطعن بالنقض في القانون اليمني

ماهي الحالة التي يجوز فيها الحكم بإعادة القضية الى المحكمة الابتدائية؟

إنكار المحرر العرفي الصادر عن الغير